لوحتها لا تحمل أي رسالة، فاللغة بحد ذاتها هي الخطاب. والموضوع لم يعد يطغى على البنية الفنيّة للعمل، في المعرض الحالي الذي يختصر رحلتها من الوجوه إلى التجريد المطلق
سناء الخوري
تبذل مجهوداً لسماع صوتها وهي تحدّثك عن لوحاتها. تمضي جنان مكي باشو جلّ يومها في مشغلها. ألهذا فقَد صوتها الخَفِر عادة الكلام؟ علاقة التشكيليّة اللبنانيّة مع الريشة واللون قديمة جداً، هي نفسها لا تتذكّر كيف أو متى بدأت. الرسم، ثمّ الطباعة الحجريّة، ثمّ النحت، وصناعة الكتب اليدويّة، والكتابة، كلّها محطات من رغبة أولى في الشغل على المادّة. غاليري Art circle عرضت خلال الأسابيع الثلاثة الماضية أعمالاً مختارة من توقيع مكي باشو، أنجزتها أستاذة الفنون التشكيليّة في «الجامعة الأميركيّة في بيروت» بين عامي 2007 و2009. ثلاثة وعشرون لوحةً بمواد مختلفة على كانفاس أو على خشب، تبدو كمقتطفات من دفتر رحلات. الأعمال التي تأخذ التجريد إلى أقصاه على صعيد اللون والشكل والموضوع، ليست إلا انطباعات لونيّة عن زيارتها إلى ساحل العاج وأبيدجان... وعن رحلات أخرى قد تكون خاضتها في عزلتها. في بعض أعمال مكي باشو التي تعود إلى أواخر التسعينيات، تقع على أشباه نساء مطبوعات على حجر، على عيون ووجوه وأشجار وهضاب، على ذكريات من لبنان. مع الوقت، راح الزمان والمكان والموضع يتلاشيان تدريجاً في أعمالها، كما في أعمالها التي عرضتها «غاليري أجيال» عام 2004. انتهجت الفنانة في العقد الماضي شكلاً صعباً من أشكال التنويع على اللون. هذا ما يظهر جلياً في اللوحات التي يستمرّ عرضها حتّى مساء غد في الصالة البيروتيّة. هنا، لا موضوع يسعفك ولا عناوين. اجلس أمام اللوحة، وحاول أن تفكّ شيفرة الألوان: عاجي، أصفر، أحمر قانٍ، تطريز بالأسود اللمّاع وكولاج غريب من حديد وورق، إضافةً إلى قطعة إلكترونيّة وأشرطة نايلون لاصقة. هذه الإضافات تذوب في جسد اللوحة، كما في «كونشيرتو إيلغار» حيث تكاد تميّز عازف بيانو تحت الطبقات البنيّة. رمال الغسق في القارّة السمراء، ضباب ودخان... تتحوّل هذه العناصر كلّها أمامك إلى أبجديّة لونيّة محتملة للغة جنان مكي باشو.

حتّى الغد في «غاليري Art circle» (الحمرا/ بيروت). للاستعلام: 03/027776


مغامرة سكرى

«حين تمضين حياتكِ كلّها في المطالعات والتدريس الأكاديمي، وزيارة المتاحف حول العالم، تجمعين ثقافة بصريّة كافية. لكنّ هذه المعرفة ليست كافية لتجلسي أمام القماشة البيضاء. في تلك اللحظة أفضّل أن أنسى كلّ شيء، وأعود إلى الأصل والفطرة». هكذا تلخّص جنان مكي باشو بيانها الفنّي. اللوحة مغامرتها نحو اللامألوف، وهي «مغامرة سكرى» مع فعل الرسم بحدّ ذاته. الفنانة التي لا تؤمن بالوحي، ترسم لوحتها كمن يكتب نصاً. ترسم طبقة أولى، فثانية، تستحيل كدسات من الألوان. تجدها تغيّر، تضيف، تمحو، أو تحوّر المزيج... لوحتها «الصدفة تصنع الباقي»، تترجم قلقها الدائم من «صيغة نهائيّة ما»... قلق يؤرّقها حتّى «تقفز الألوان بحريّة كسارق قبلة على عجل»، كما لوحتها Venus & Venice، حيث تحتار ما إذا كانت التضاريس هضبة أم خصر امرأة مستلقية.

مذكرات حرب

خلال حياتها الخصبة بالتجارب، تنقّلت جنان مكّي باشو بين أكثر من 22 بيتاً في خمسة بلدان وثلاث قارات. التشكيليّة والأستاذة الجامعيّة ولدت في تلّة الخياط (بيروت) وسط عائلة من ثمانية أولاد، ودرست الأدب الفرنسي والفنون الجميلة في «الجامعة اللبنانيّة» قبل أن تهاجر مع زوجها وولديها على أثر اندلاع الحرب الأهليّة. في فرنسا والولايات المتحدة درست الفنون التشكيليّة بين رسم وطباعة حجريّة، وأقامت في أميركا بين 1984 و2000 تاريخ عودتها إلى بيروت. بعض أعمالها من مقتنيات «المكتبة الوطنيّة» في باريس، و«مكتبة الإسكندريّة» ومتاحف بين واشنطن، وريو دي جينيرو ونيويورك والقاهرة. الناقدة والباحثة في تاريخ الفنّ سلوى المقدادي كتبت مرّة أنّ أعمال مكي باشو «دفتر مذكرات لإحدى سجينات الحرب الأهليّة في بيروت»