بيار أبي صعبيطالعك الملصق العملاق ما إن تجتاز نهر الكلب، في اتجاه جونية. لقد صمّم في قياسات مختلفة، بالعرض غالباً، بالطول في بعض الأحيان. كما صوّر فيلماً إعلانياً على بعض الشاشات المحليّة. ست مقصورات من تلفريك حريصا الشهير معلّقة على السكّة المائلة، كل واحدة بلون، وعلى الطرف الآخر مقصورة واحدة، كأنّها عنترة بن شدّاد في مواجهة الأعداء. وهذا التعليق: «كلّن ضدنا/ العدرا معنا». كلا ليست دعوة للالتحاق بالجيش المريمي، أو بأي إرساليّة أو رهبنة أو سلك كهنوتي. إنّه ملصق سياسي، من النوع الذي اقتحم أخيراً الفضاء العام في لبنان، في إطار الحملات التي غزت المدن والقرى، تحضيراً للانتخابات البلديّة المقبلة... في بلد تشكّل «السياسة»، بمعناها الأضيق، خبزه اليومي على مدار السنة.
أين هو الآن «المجلس الكاثوليكي للإعلام» الذي حرّض على مجلّة «السمندل» بسبب رسمة لم تعجبه؟
السيّدة العذراء معنا طبعاً، الأمر ليس مطروحاً للنقاش. لكنّ قلبها على جراح البشريّة جمعاء. أبناؤها من الممكن أن يكونوا مثلاً ضدّ اللائحة التي تستنجد بـ«العدرا» للفوز في انتخابات بلديّة جونية. من الممكن أن يكونوا من خارج كسروان أصلاً، بل من خارج لبنان كلّه. من الممكن أن يكونوا عرباً أو هنوداً حمراً، مسيحيين أو مسلمين أو بوذيين أو ملحدين. العدرا أمّ هؤلاء جميعاً، حسب روح اللاهوت. فمن يتحمّل مسؤوليّة زجّها في انتخابات بلديّة، في إحدى مدن البلد الصغير الذي يظنّ نفسه سرّة العالم؟
هذه الديماغوجيّة المقلقة، هدفها الأوّل تعطيل أي نقاش عملي، حول قضايا الناس وشؤون المدينة. الانتخابات البلديّة تدور حول الحاجات اليوميّة للمواطنين، وخياراتهم في إدارة مدينتهم، وتحسين أطر حياتهم. فماذا جاء يفعل هنا التهويل الديني الذي يستحضر المؤامرة؟ من «هم» ومن «نحن»، كي تتدخّل أم عيسى الناصري شخصيّاً، وتنتصر لـ«نا» المستهدفة على الـ«هم» المعتدية؟ «المجلس الكاثوليكي للإعلام» الذي ارتكب اعتداءات متكررة على الحريات العامة، آخرها التحريض على مجلّة «السمندل»، بسبب رسمة لم تعجبه، هل اعترض على مشاركة العدرا في انتخابات بلديّة جونية؟
أما صاحب هذا «الضرب» الذي سيدخل تاريخ الملصقات السياسيّة في لبنان، فلو أنّه طلب النصح من إيلي خوري مثلاً، أو أي من منظري حبّ الحياة وثورات الأرز في «كوانتوم»، ومصمّمي ملصقات الانتخابات النيابيّة الأخيرة لصالح محور الخير، لشرحوا له جيّداً أن العصبيّات الحقيقيّة لا ينبغي الإفصاح عنها جهاراً في الإعلان، بل الإيحاء بها بمهارة وذكاء. يكفي تقديم صورة منزّهة للقضيّة التي تدافع عنها، وهي «الخير» حكماً، والإشارة تلميحاً إلى الأشرار الذين يقفون خارج الكادر، جحافل همجيّة تتهدّدنا بالفؤوس والهراوات (والسكود)... كي تحشد حول مشروعك السياسي.
كنّا نتمنّى أن نرى ملصقاً لشبان وشابات أمام كتل الباطون والعمران الوحشي، وتحتهم عبارة: من أجل مدينة مختلفة. لكن تلك حملة انتخابيّة أخرى «لم تأت ساعتها بعد».