يوجّه المطرب العراقي المعروف تحيةً إلى «الأربعة الكبار» في المقام العراقي. كتابه «المقام العراقيّ ومبدعوه في القرن العشرين» (دار دجلة ــ عمان) دراسة تحليليّة لأبرز مبدعي المقام بعد الفنان الرائد محمد القبانجي
حسام السراي
يكرّس حسين الأعظمي (بغداد ــــ 1952) كتابه الجديد الصادر حديثاً عن «دار دجلة» في عمان للحديث عن تجربة «الأربعة الكبار»، كما يسمّيهم، في تراث المقام العراقيّ، وهم: حسن خيوكة، ويوسف عمر، وناظم الغزالي، وعبد الرحمن العزاوي.
هكذا يبدأ هذا المطرب المعروف، الذي أُطلق عليه لقب «سفير المقام العراقي»، كتابه «المقام العراقيّ ومبدعوه في القرن العشرين» بتعريف المقام على أنّه «شكل (فورم) غناسيقيّ تراثيّ محليّ عراقيّ يُسرد في صور شاملة، متعدّدة الجوانب من الأشكال والمضامين الغنائيّة... ليعبّر عن حياة العراق بكلّ تاريخه وحضارته وثقافته وظواهره».
في الباب الأول من الكتاب الذي يقع في 390 صفحة ويمثّل دراسةً تحليليّةً لأبرز مبدعي المقام بعد الفنان الرائد محمد القبانجي، يدعونا صاحب «المقام العراقي... إلى أين؟» إلى إلقاء نظرة على المقام العراقيّ منذ منتصف القرن العشرين. ويشير إلى أنّ «حقيقة المؤدّين الذين ظهروا بعد انتصاف القرن العشرين، تكمن في أنّ أكثرهم استمرّوا بتقليد ما وصل إليهم من أسلوب أو أساليب أدائيّة اجتاحت النصف الأول من القرن، وخاصة الطريقتين القندرجيّة (نسبة الى مؤسسها رشيد القندرجيّ) والقبانجيّة اللّتين لا يزال تأثيرهما إلى يوم الناس هذا».
حسن خيوكة ويوسف عمر وناظم الغزالي وعبد الرحمن العزاوي
وبالاستناد إلى تقويمات كانت قد صدرت في الماضي، يقرّ هذا المؤلّف بأنّ «تأريخ الأداء المقاميّ العراقيّ في القرن العشرين، حفل بأخطاء، ربما كثيرة، ارتكبها نقاد مقاميون في أحكامهم على معاصريهم...». لكنّه يعود إلى الحديث عن «ظهور نقاد أتيحت لهم فرص دراسة الموسيقى وعلومها، إضافة إلى مواهبهم النقديّة التلقائيّة، من بينهم جلال الحنفي، عادل الهاشمي، باسم حنا بطرس، هيثم شعوبي وغيرهم». وقد عبّرت ملاحظاتهم النقديّة عن تطور الناحية الفنيّة عن ذي قبل لدى معاصريهم من المؤدّين.
استغلال الخزائن الأدائيّة كان الدرس الذي لم يغب عن مؤدّي المقام من الأجيال اللاحقة. هذا ما يريد إيصاله حسين الأعظمي إلى قارئ الكتاب. ويذهب إلى ذكر أسماء بعضهم أمثال عبد الجبار العباسي، وعبد المجيد العاني، وحسن البناء.
وخلال حديثه عن المحليّة والعربيّة، يؤكد حسين الأعظمي حقيقتين: الأولى أنّ مجالات نشر المقام العراقيّ خارج حدود المحليّة كانت قاصرة، باستثناء المطرب «المعجزة» ناظم الغزالي الذي نجح في جعله مسموعاً عربيّاً. والثانية أنّ التسجيلات المقاميّة لما بعد منتصف القرن الماضي، أسهمت في بلورة الشكل المقاميّ الحديث والمعاصر وتطويره.
لاحقاً في الكتاب، يتطرّق الأعظمي إلى المدارس المقاميّة بين البغداديّة والشماليّة وتفصيلاتها إلى الكركوكيّة والسليمانيّة، مبيّناً الاختلافات النسبيّة في طرق أداء المقامات لدّى كل محافظة عراقية، وخصوصاً الشماليّة منها.
الكتاب وهو يشير إلى الترتيب الزمنيّ للنتاجات الفنيّة، فإنّه يدرج مسيرة أبرز مغنّي المقام المبدعين، فيذكر حسن خيوكة، ويوسف عمر الذي كان فناناً جماهيريّاً بصورة طاغية، وبالطبع ناظم الغزالي الذي عبرت شهرته إلى آفاق عربيّة، في حين يبيّن أنّ عبد الرحمن العزاوي اقتنع بحدود شهرته المحليّة. ثمّ يفرد المؤلف أبواباً عدّة لتناول بداية كلّ من هؤلاء المطربين المقاميّين.
الباب الثاني من الكتاب يركّز على مميّزات الفنانين وفصيلة أصواتهم: صوت حسن خيوكة يمتاز بأنّه «باص باريتون: الصوت الغليظ الحاد»، ويوسف عمر بـ«التينور القويّ» القريب من صوت عبد الرحمن العزاوي «التينور الدراميّ». بينما وصف صوت الغزالي بـ«التينور العاطفيّ».
وعن التحوّلات في جماليات التعبير، يوضح الباب نفسه أنّ «تسجيلات المقام العراقيّ اتّسمت بجمالية الإخراج الصوتيّ ودقة المضمون التعبيريّ ووضوح الشكل». ثمّ يعود الأعظمي لينسب إلى كلّ فنان صفته الأسلوبيّة. هكذا، فحسن خيوكة ذو صوت «شجي حزين ـــــ مقام المخالف»، والغزالي يتصف بـ«تعبيرات بغداديّة صميميّة: مقام الجهاركاه»، وأوضح مثال على ذلك هو أغنية «طالعة من بيت أبوها». أما يوسف عمر والعزاوي فيتميّزان بـ«تعبيرات بغداديّة بأسلوب تقليديّ»، والمثال على ذلك هو غناء قصيدة معروف الرصافي التي يقول مطلعها «يا شعر إنك صورة لضميري/ يبديك حزني تارة وسروري».
هذا وقد مثّلت الصور النادرة ونوتات الأغاني المعروفة للراحل ناظم الغزالي إضافةً مهمة إلى الجهد الذي بذله المؤلف. كذلك نجده يعدّ فترة الثلاثينيات من القرن الماضي التي برز فيها «الأربعة الكبار» وخلقهم لتيار خياليّ تأمليّ، وكذلك تأسيس الإذاعة العراقيّة ومعهد الفنون الجميلة، من الانعطافات المهمة في تاريخ الفن العراقيّ. وقد بنى الأعظمي على أساسها تصوراته عن التحوّل الحاصل بعدها من خلال تخرّج طلاب الدورات الأوّلى وإعدادهم المسبق للأعمال الغناسيقيّة المعتمّدة على حيّز التفكير الموسيقيّ وجماليات الذوق، لينتجوا ما أطلق عليه «المقام المصنوع».
ختم الأعظمي كتابه من باب العرفان لأساتذته الأربعة، إذ يقول «وبحكم ما واجهه العراقيّ في القرن العشرين، لقد فُرض عليهم إعادة تقويم واختبار للمبادئ الفنية والجمالية والأدائية التي قام عليها الفن الغنائيّ والمقام العراقيّ من دون أن ينكروا القيم السابقة أو يتجاهلوها، وتلك هي ميزة الفنان المبدع».