محمد خير«حاول أن يتذكر أي شيء مميز في حياته أكثر من الجلوس في المقهى، وقراءة الجرائد، والفرجة على التلفزيون ونكتة مع الأصدقاء... لا شيء أكثر من ذلك... لا شيء سوى تلك العبيطة التي تفتح فمها الجميل أكثر مما تغلقه... لهذا السبب يحبها؟».
ليست مجموعة «قميص هاواي» (دار ميريت ـــ القاهرة) بمتتالية قصصية. مع ذلك، فإن بطل إيهاب عبد الحميد يكاد يكون هو نفسه فيها كلّها. فردٌ وحيد إزاء أسئلة كبيرة تولدها التفاصيل الصغيرة حيناً، والعجائبية أحياناً أخرى... في قصة «العطش»، تنقطع المياه في البلد كله، يجف النيل، تختفي جميع أنواع العصائر. إلى هذا الحد، يكبر حجم المفارقة ويغامر الخيال، لكنّ الحياة تسير نحو اضمحلالها بالأسئلة المتعثرة نفسها. «وازن بين النزول وفقدان بعض المياه في المشي، وبين البقاء في الفراش واختزان ما يحتاجه من مياه». يتحول الموقف العجيب إلى سؤال أشبه بلعبة لفظية: «أخرج وأعيش وأموت، أم أبقى وأموت وأعيش؟»، يضعنا المؤلف أمام إسقاط هائل، لكنّنا نشعر به ولا نشعر به، فالحدوتة تنمو بإيقاعها الخاص، والبطل يسير نحو الموت بخطوات خافتة. يخرج من البيت ويصطدم بشجرة تظهر في الصباح ثم تختفي. يرقب القطط والكلاب دائخة محتضرة في الشوارع. وسط كلّ ذلك، يبدو الحب ممكناً وعبيطاً وثرثاراً: «مشكلتي أني عبيطة»، تقول البنت. «أمي تقول عني عبيطة مع أن الناس يقولون عنها عبيطة هي
«أخرج وأعيش وأموت، أم أبقى وأموت وأعيش؟»
الأخرى، أبي كان يقول لها يا عبيطة دائماً، حتى دعت عليه ذات مرة أن يصدمه أوتوموبيل، وصدمه أوتوموبيل وأخذت أمي تبكي وتقول يا ربّ لم أكن أقصد». بعد مجموعته القصصية الأولى «بائعة الحزن» عام 1998، وباكورته الروائيّة «عشاق خائبون» عام 2005، تنضح مجموعته الثانية هذه بالعوالم الغرائبيّة. في قصة «مع كانغارو»، تُفتتح الحكاية بنهج كافكاوي «عندما فتحت الباب، كان الكانغارو ممدداً على الأرض، يطرق الباب بذيله». لا يهمّ أن نعرف كيف وصل الكنغر، مع ذلك، فنحن مضطرون إلى التورط مع الراوي في البحث عن طريقة للتخلص من ضيفه المدهش، ثم التآلف معه. كيف تبدو الحياة في مسكن مع حيوان كنغر. كيف سيبدو الحب تحت ظلال هذا الوجود الغريب؟ هنا، تتدخل الدولة، والبيروقراطية، والتجار، ويعيش القارئ انفعالاً قد يفوق ما لدى الراوي نفسه.
في «مزرعة البنات» حيث يعمل الراوي في حقل يزرعون فيه الفتيات، يحكي لنا عن حيرته اليومية مع ماكينة القهوة. تدق بابه فتاة زرعها بنفسه، تريد أن تأخذه معها إلى المدينة «يقولون إنك يجب أن تجرب الشيء حتى تحكم إن كنت تحبه أم لا. لكني لا أحب المدينة لدرجة أنني غير مستعد لتجريب المدينة».
في استيلاد الغرابة، لا يكتفي المؤلف باللجوء إلى الخيال، بل يستنبط غرابة الواقع أيضاً. في «موتو» يحكي أحمد بجدية، وهو يبطط قطعة الحشيش: «لا أبالغ، أنا شفت هذا المنظر بعيني التي سيأكلها الدود، المساجين كانوا يمشون على الحائط». أما «الكاتبة» فتضع الراوي أمام سؤال آخر: «لم أصدق أنه يمكن لإنسان تزيد ثروته عن المليار دولار أن يكتب (...) ما كان يشعرني بالاستفزاز أكثر أن ما تكتبه كان جميلاً». قصص متمهلة، تبوح بلا اقتضاب، تخلص للحكاية كما للشك الوجودي. عندما أراد بطل العطش أن يحكي للبنت عن نفسه، تنهد ثم أفضى بالحقيقة «حياتي فارغة».