في كتابه «الشيخ تقي الدين ابن تيميّة ـــ دراسة في فكره واجتهاداته»، يفنّد أحمد حطيط فتاوى «شيخ الإسلام» في ضوء سيرته، ويرصد تأثيراته في أيّامنا على بعض الاتجاهات التي تسعى إلى أسلمة المجتمع من خلال القاعدة الجماهيرية لا عن طريق الدولة
ريتا فرج
إذا كان الإسلام ثورة الشرق على حد تعبير هيغل، فإنّ محنة المعتزلة والانقلاب عليهم مثّلا ثورة ضد الثورة. وبعدما وصل فكر الاعتزال إلى ذروته الجدالية في عهد الخليفة المأمون، تراجع على يد المتوكل، آمراً بالعودة إلى منهج أهل الحديث الذي حمل رايته الأشاعرة.
مُذاك العهد، خيضت حروب بين العقل والنقل، ما زالت مؤثراتها حاضرة إلى اليوم.
في «الشيخ تقي الدين ابن تيميّة ــــ دراسة في فكره واجتهاداته» (مؤسسة التراث الدرزي ــــ بيروت) يرصد أحمد حطيط فتاوى ابن تيميّة، معتمداً في دراستها منهجية المقارنة.
لكن قبل ذلك، يفتتح الباحث أطروحته بالظروف السياسية التي عاصرها «شيخ الإسلام» (1263 ــــ 1328) المولود بعد خمس سنوات من سقوط بغداد في يد هولاكو، مؤرخاً بإسهاب الأجواء التاريخية إبان حكم المماليك وصراعهم مع المغول والفرنجة، إلى أن طردوا العدو من مجالهم.
وكان لتلك الظروف دور أساسي في تكوين البيئة السياسية زمن ابن تيميّة. فقد شهدت تلك المرحلة حِراكاً ثقافياً ودينياً قد يكون الأسطع، باستثناء الفتنة الكبرى. آنذاك، برزت الحركة الصوفية وعرفت تلك الفترة جدالاً فقهياً بين المذاهب الإسلامية بلغت حد التخاصم والصراع، ولم يكُن شيخنا بمنأى عنها.
إذ كان للفتن أثر في نتاجه الفقهي المُسهب في حملات التكفير ضد مناوئيه... فما هي مواقفه من الأشاعرة والمتصوفة والفلاسفة وفرق الشيعية؟ وما هو دوره في الحملات الكسروانية التي شنها المماليك على الشيعة، مطلع القرون الوسطى؟
بداية، لا بد من تحديد الأطر المنهجية في عقيدة ابن تيمية. أولها حصر مصدر التلقي بالوحي، أي القرآن والسُنّة، وعدم الخوض في الفلسفة وعلم الكلام؛ وآخرها حجيَّة السُنّة في العقيدة.
السلفية الواضحة في أسلوب «ترجمان القرآن» ــــ كما كان يلقّبه معاصروه لكثرة ما أخرج من فتاوى ــــ لم يسبقه إليها أحد. وقد ترسخت منهجيته عبر الأخذ بظاهر النصوص التأسيسية وحرفيتها، من دون الوقوف عند مضمونها التأويلي.
هكذا، بنى خطابه الفقهي على السيادة المطلقة للقرآن والسُنّة النبوية، بنكهة سلفية مفرطة. نكهة يُحيلها أحمد حطيط إلى الاحتلال المغولي لبعض أجزاء العالم الإسلامي، لذا أفتى بأن الحكام المغول ليسوا مسلمين، وقد استغل الأصوليون الجدد فتاواه، فكفّروا الدول وقادتها.
غير أن طروحات ابن تيمية لا تنحصر في ردّ الفعل على الأجواء السياسية التي خبرها في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، ما أنتج فقهاً سلفياً متشدداً. بل إنّ موقفه من الفلسفة وعلم الكلام، القائمين على مبدأ السببية التي تحاكي الظاهرة التاريخية بكليتها، كان أشدّ ضراوةً.
«الحملات الكسروانية» كانت أهدافها سياسيّة لا دينيّة
في قراءته الفقهية لمذهب الأشاعرة مثلاً، انتقد ابن تيميّة أفكارهم في مسائل عدّة، أهمها عدم اعتمادهم على الكتاب والسُنّة وجهلهم بالمذهب السلفي.
هكذا، انتقد أبا الحسن الأشعري لعدم خبرته «بمذهب أهل السنّة والحديث»، آخذاً عليه تأثره بالجهمية والمعتزلة والقدرية. وانتقد الغزالي في نزوعه نحو الفلسفة، نافياً تدرجه إلى مرتبة فقيه. وتابع حربه في تجهيل الخصوم، من فخر الدين الرازي إلى أبي المعالي الجويني وأبي بكر ابن فورك، لأنهم خاضوا في علم الكلام.
ولدى وصوله إلى طوائف الجهمية والمعتزلة والفلاسفة، اتهمهم بالانحراف والكفر، لأنهم قالوا بخلق القرآن، ونفي الصفات عن الذات الإلهية.
ابن تيميّة ــــ الحنبلي النشأة ــــ اعترف بتأثره بالصوفية ومسلكها السلفي، لا سيما قولها بروحانية الروح، والشعور العميق بالصبر. وأخذ عنها بعض المصطلحات التقنية مثل المكاشفة والإلهام والمعرفة الحدسية.
لكنّه، على الجبهة الأخرى، كفّر رواد التصوف الفلسفي، ورماهم بالإلحاد والزّيغ وإفساد النفوس، وخصوصاً أولئك القائلين بالاتحاد ووحدة الوجود. لكن الدارسين لابن تيمية ــــ كما يؤكد حطيط ــــ يأخذون عليه أنّ ردوده انطوت على الأخطاء والشطحات التي لا تقل عن انفلات سيد المتصوفة، ونقصد هنا الحلاّج، الصوت الداعي إلى مسلك التوحيد، حين أدرك بعد تدرجه نحو المرتبة القصوى بأنه «هو الحق».
ولم يكتف ابن تيمية بإسقاط وصف «الرافضة» على الشيعة بل كفّرهم، وقال بنقص عقائدهم في التوحيد والإمامة والعصمة والغيبة وأحقية علي. ورمى فِرقهم بالزندقة والنفاق. ثم خلص إلى «أن الشيعة أكثر شراً من اليهود والنصارى».
ولعل الحملات الكسروانية التي شنها المماليك على المناطق الوسطى في جبل لبنان، ومن ضمنها المتن الشمالي الحالي، تمثّل النواة الأساسية للكتاب.
وبصرف النظر عن تضارب القراءات المعاصرة في فحوى الحملات الكسروانية، يأتي الخبر اليقين من الرسالة التي بعثها ابن تيميّة إلى السلطان الناصر محمد بن قلاوون، بشأن الشيعة في مناطق كسروان. يومها، انتقد ابن تيمية في رسالته مَن أسماهم أهل البدع المارقين، واصفاً إياهم بـ«الرافضة» لأنهم ينكرون شرعية خلافة كل من أبي بكر وعثمان.
وذكر في رسالته أنّ هؤلاء يؤمنون بمنتظر «هو حجة الله على الأرض» أي المهدي. وأشار إلى دافعين استوجبا الحملات الكسروانية: الأول هو عدم اتباعهم مذاهب أهل السنّة الأربعة؛ والثاني تعاونهم مع الفرنجة والمغول.
وفي هذا السياق، وبعدما حشد عدداً من المصادر، أسقط أحمد حطيط فتوى عميد السلفية، ليبرهن أنّ الشيعة لم يتعاونوا مع أعداء المماليك، والحروب التي وجهت ضدهم لم تأتِ في إطار السبب الديني كما خلص ابن تيميّة، بل لأسباب سياسية بحتة.
وطبعاً، أحدث هذا التهجير القسري تحولاً نوعياً في خارطة الجماعات الدينية المنتشرة في لبنان، لا تزال تداعياته قائمة حتى الوقت الراهن.
ويستخلص المؤلّف، أن فتاوى ابن تيميّة الذي مثّل حلقة وسطى بين الإمام أحمد بن حنبل والشيخ محمد بن عبد الوهاب، كانت لها آثار انقلابية على الاجتهاد والتأويل في حركية الفكر الإسلامي. وهذه الفتاوى لم تنحصر عند حدود الفقه والفقه المضاد، بل طاولت ـــــــــــ بدءاً من مطلع القرن العشرين ـــــــــــ الحركات الإسلاموية التي عملت على تكفير الحكام والمجتمع والخصوم، على رغم الفاصل الزمني البعيد بينها وبين رائد السلفية.
وإذا كانت هذه الحركات الإسلاموية قد دخلت في حلقة مفرغة، بعد تداعي مشروعها في إحياء الخلافة المنشودة، فإن السلفية الجديدة تسعى اليوم إلى أسلمة المجتمع من جديد، من خلال القاعدة الجماهيرية لا من خلال الدولة.