حسين بن حمزةفي كتابه الشعري الثالث «سيرة عاطفية لرجل آلي» (دار مختارات ــــ بيروت)، يمزج فيديل سبيتي بين معجمين متباعدين: العاطفة والآلية. المعجم هنا هو مزاج وحساسية معينة في تأليف القصيدة ومقاربة معناها. العنف المتولد من احتكاك المعجمين يصبح نبرة شخصية مفضَّلة للكتابة. ما يحدث هو استمرار لمقترحات سبق أن جرَّبها الشاعر في مجموعتيه السابقتين «تفاحة نيوتن» (2005)، و«اقتل رجلاً/ ارفع جمجمته عالياً» (2008).
الاستمرارية حاضرة حتى في العناوين ذات المذاق العدائي والشرس، والمقدَّمة إلى القارئ كخلاصة أو نموذج للمعجم المستخدم في القصائد. العنف غير المروَّض الذي وسم إشهار سبيتي لتجربته الشابة يتخفف هنا من هيجانه وفورانه لمصلحة عبارة تبتلع عنفها وتكتمه. التخفف يُرخي العصب المشدود للغة فتصبح أكثر سردية. لا نعرف إن كان هذا الاسترخاء يزيد أو يُنقص من شعرية ما نقرأه، لكن من الواضح أن منسوب العنف والقسوة ينحسر بدرجات متفاوتة. ثمة قصائد لا تزال محتفظة بمذاق الممارسات السابقة، وخصوصاً في القصائد القصيرة. في قصيدة «Fashion TV»، نقرأ: تصل عارضة الملابس، نحيفة وممتلئة الصدر، إلى حافة الشاشة، ثم تعود إلى الكواليس. يقول إن التالية ستخرج من التلفزيون لا بدَّ، ولكنها تعود على أعقابها. لن يستسلم. لا بد أن إحداهن ستقرر الخروج من الشاشة لتلاقيه إلى كنبته. لا بد أن هذا سيحدث في يوم ما». السينما، على أي حال، حاضرة بقوة الكتاب. ثمة سيناريوهات متخيلة وممنتجة على طريقة تارانتينو وسكورسيزي. بطل الكتاب نفسه يصلح لفيلم أو رواية أكثر من صلاحيته للواقع. إنه كائن مديني يحظى بحياة حديثة ذات طعم معدني أو إسمنتي. يذكِّرنا فيديل سبيتي بتجارب فادي أبو خليل ويوسف بزي، فضلاً عن ظلالٍ قوية لعباس بيضون وسركون بولص. القصد أن الشاعر يتقاسم مع شعراء سابقين اللغة الحادة والخالية من الشفقة البلاغية. لنقرأ هذا الغزل: «مرّت اثنتان وسبعون دقيقة وأنتِ معي. أليس عليك الرحيل لملاقاة حبيبك/ ـــ بلى/ ـــ باي/ ـــ همم/ ـــ همم»، أو: «فمكِ المليء بالأسنان يُشقيني في أكله».
ثمة قصائد/ نصوص طويلة غير مكترثة بتعاليم السلامة الشعرية، لكنها تتمتع بقدرة لافتة على نقل عدواها إلى القارئ. نحس أحياناً أنها سرديات شعرية أو شعر قصصي. الواقع أن سبيتي لا يكترث بقراءة كهذه. قصة أو قصيدة، لا فرق. المهم في شغل هذا الشاعر أن يؤرخ يومياته وهواجسه وأوهامه. النصوص نفسها مجرد ملاعب ومساحات لترجمة الذات. إنها سيرة متقطعة ومتواصلة، حقيقية ومصطنعة، مكروهة ومشتهاة. التناقض والحيرة جزءٌ من حساسية هذه الكتابة. الكتابة ترجمة غير حرفية لحياة حقيقية. ثمة كائن يتأرجح بين أحوال واقعية واستيهامات غير منطقية. يصبح امرأة في قصيدة، ثم شجرة في قصيدة أخرى. ينكّل بنفسه ويجرِّدها من أي بطولة ممكنة، ولكنه يأمل أن يُحسب له ذلك كتصرفات بطولية من نوع آخر. لنقرأ: «أدعوكم إلى وليمتي. جسدي على طاولتكم ناضج وصالح للأكل. تناولوا ما يُكمل فرحكم من لحم فخذي وبطني وظهري القوي ومؤخرتي الدسمة. كلوا من طيبات جسدي. لكن احذروا المرارة... ففيها كل سُهاد السنين الماضية والآتية».