بشير صفير
بولونيا، الأول من آذار (مارس) عام 1810. رُزِقَ رجلٌ فرنسيّ من آل شوبان وزوجته البولونية، صبياً أسمياه فريدريك. كان ذلك بعد عقدَين على رحيل موزار (1756 ــــ 1791)، وبعد حوالى سنة على رحيل هايدن (1732 ــــ 1809). يومها، كان بيتهوفن (1770 ــــ 1827) في الأربعين، أما شوبرت (1797 ــــ 1828) فكان في بداية المراهقة. عاش شوبان طفولة عادية وأظهر ميلاً مبكراً إلى الموسيقى، وخصوصاً العزف على البيانو، فتولت والدته تلقينه الدروس البدائية. لكن شوبان، ذاك الذي سيصبح مع آلته شخصاً معنوياً واحداً، لم يدرس قط على يد أستاذ بيانو متخصّص. بعد والدته، تولى عازف كمان الإشراف على تدريسه بعض النظريات الموسيقية، واقتصر ذلك على بعض الإرشادات والنصائح العامة والآراء التي كان يعطيها الأستاذ في مؤلفات الفتى. أظهر شوبان خلال شبابه حس سخرية لاذعاً، انسحب على شخصيته وحياته لاحقاً. إلى جانب الموسيقى، اهتم أيضاً بالأدب، والمسرح، والتاريخ...
PRELUDE # 4
درس الشاب ردحاً من الزمن في «كونسرفاتوار وارسو»، مركّزاً اهتمامه على البيانو، وكان من بين معلّميه جوزف إلسينر، أحد أبرز منظري الموسيقى في بولونيا حينها. رأى فيه الرجل «موهبة غير عادية»... إحدى أوّل (وأندر) حفلاته العامّة في بولونيا، لقيت نجاحاً كاسحاً، لكنّ نجوميته في بلاده لم تطُل، إذ اضطر لمغادرتها لأسباب سياسيّة، بعدما رفض العزف أمام القيصر نقولا الأول الذي جاء بولونيا فاتحاً. بعد فيينا، توجّه إلى بلده الثاني فرنسا، حيث استقرّ نهائياً منذ عام 1831. هناك، راح يعمّق معرفته بالبيانو... فنصحه أحد أساتذته بسلوك الطريق المنطقي، أي الانطلاق من مدارس الأسلاف، وهذا ما رفضه شوبان، صاحب الشخصيّة المتفرّدة بالكامل. الرجل ابن عصره بامتياز: شخصية رومنطيقية، طبع شديد الخجل والحساسية، وصحة هشة. كان، إذا جاز التعبير، «سريع العطب» من الناحيتَين النفسية والجسدية. مثّل هذا المؤلّف الرمز المطلق للـ«أنا» المدمّرة، بطلة الأعمال الإبداعيّة في الفن والأدب خلال القرن التاسع عشر. دمار جسّدته العلاقات الإشكاليّة مع المرأة والمجتمع والجسد والروح والتقاليد والقواعد الفنيّة المرسومة. كلّ ذلك تجسّد خير تجسيد في موسيقاه التي جاءت مزيجاً من أوجاع العصر والعبقرية النادرة.
عرف شوبان الحبّ ثلاث مرات. كانت الأولى عابرة، والثانية مدمِّرة، فيما سحقته في الثالثة قاهرة قلوب الرجال جورج صاند. قبل صاند، أحب شوبان فتاةً بولونية، لكنّه عندما قرَّر الزواج منها، كانت إصابته بالسلّ قد شاعت بما يكفي لعدم موافقة والدة العروس على ارتباط ابنتها بشاب «يبصق دماً». كلّ تلك الكآبة الوجوديّة، أضف إليها المرض المتفاقم، وفقدان الحبيبة، طبعت المقطوعات التي نسمعها اليوم... أعمالٌ خرجت من أنامل شوبان كما خرج الدم من فمه والدمع من عينَيْه.
على عكس معاصريه من عازفي البيانو المؤلفين، لم يكن شوبان من الساعين إلى تقديم أعماله في أمسيات عامة. كانت نظرات الجمهور تسحقه. لذا، كان يفضل الجلسات المغلقة، في صالونات السماع، حيث يقدم أعماله الجديدة (أو يرتجل) أمام حلقة صغيرة من الأصدقاء الفنانين والأدباء (دولاكروا، بَلزاك، بليني، هاينه، لِيسْت...).
كانت باريس في تلك الفترة مزدهرة بالأمسيات واللقاءات الفنيّة والصالونات الأدبيّة... لذا قبل من دون اعتراض دعوة صاند التي لم يجذبه فيها شيء في البداية: لا شكلها ولا أفكارها ولا شخصيتها، حتّى أنّه أسرّ لأحد أصدقائه مازحاً بعد لقائه الأوّل بها، بأنّه لم يكن متأكداً إن كانت امرأة فعلاً. لكن مرور الوقت،
رمز الـ«أنا» المدمّرة بطلة الأعمال الإبداعيّة في الفن والأدب خلال القرن التاسع عشر
لم يكن شوبان كثير الأسفار. لكنّه زار فيينا في أولى محطاته خارج بولونيا، كما عرّج على ألمانيا وإيطاليا. لقد أمضى النصف الأوّل من حياته (تقريباً) في بولونيا، والنصف الثاني في فرنسا. وكانت له زيارة إلى إسبانيا مع جورج صاند وولدَيها (من زواج سابق). بعد انفصالهما نهائياً، ترك شوبان باريس قاصداً لندن، لكنّه ما لبث أن عاد إلى فرنسا في حالة صحية ومادية يرثى لها.
وحيداً، حاول الفنّان استجماع قواه لمعاودة نشاطه في التعليم بهدف كسب المال. لكنّ المرض كان قد أجهز على جسده الضعيف، فعجز الموسيقي حتى عن التأليف. في خضمّ ضعفه، بعث برسالة إلى شقيقته دعاها فيها إلى المجيء سريعاً إلى باريس، لكي تكون إلى جانبه. في 17 تشرين الأول (أوكتوبر) من عام 1849، رحل شوبان عن 39 عاماً تاركاً روائع كثيرة و... وصية واحدة: «قلبي يُدفن في بولونيا، وRequiem موزار («جنازة الموتى») يُعزَف في جنازتي». وهذا ما كان.
من عظماء البيانو، ولكن...
لا شك في أن فريدريك شوبان هو من العظماء الذين تربّعوا على عرش البيانو. لكن هذا لا يمنع الإشارة إلى حقيقتين موضوعيّتين قد تبدوان متناقضتَين: الأولى، هي أنه يندرج تاريخياً في الصف الثاني لناحية الإبداع الموسيقي الكلاسيكي. وهذا لا يقلِّل من قيمته. إذ إنّ الصف الأول لم يتّسع لأكثر من ثلاثة أسماء: باخ، موزار وبيتهوفن. أما في الصف الثاني، فنجد شوبان بين الأوائل، إلى جانب هايدن وشوبرت وبرامز، وأسماء كثيرة أخرى، منذ ما قبل باخ وحتى يومنا هذا. الحقيقة الثانية، هي أن نسبة أعماله المعروفة من الجمهور، إلى تلك التي كتبها، هي الأعلى بين كل زملائه (حوالى 70 %). أي إن 12 أسطوانة من أعمال شوبان هي رقم ضروريٍّ وكافٍ في آن معاً للتعرّف إليه جيّداً (من دون أخْذ مسألة تعدُّد التسجيلات لأداء عمل واحد في الاعتبار). فيما لا يُعدّ مُجمَل ما كتب أكثر من حوالى 17 أسطوانة. بالمقارنة مع موزار مثلاً، خمسون أسطوانة هي ضرورية وكافية ضمن المعايير ذاتها، غير أن الخمسين أسطوانة تمثّل أقلّ من 30 في المئة ممّا كتب المؤلف النمساوي.
لم يكترث كثيراً بتجديد الموروث الموسيقي الكلاسيكي
من جهة ثانية، وإضافة إلى النَفَس الذي يميّز معظم أعماله، كان شوبان صاحب شعار مقدّس: المهارات التقنية يجب أن تكون وسيلة، لا غاية. لأن «تحطيم البيانو» دون سبب ملزِم، يهدف إلى إبهار الجمهور، على طريقة زميله ومعاصره المجري فرانز لِيسْت (1811 ــــ 1886) الذي كتب روائع كثيرة، لكن بعضها ممتعٌ للنظر أكثر منه للسمع.