توقّع كثيرون أن يكون «الرحلة الأخيرة» نقلة نوعيّة في مسار صاحبه. لكن الفيلم الذي انطلقت عروضه أخيراً في بيروت، وقع في فخّ الشكلانيّة، مفضلاً سحر الصحراء على معاناة «أهلها»
باريس ــ عثمان تزغارت
من أقبية الجنس في «بيغال» (1994) إلى بارات هافانا (Cuba Feliz ــــ 2000)، ومنها إلى عوالم الطفولة المشردة («خامسة» ــــ 2007)، اشتهر السينمائي الفرنسي، من أصل تونسي، كريم دريدي، بأسلوبه المميز في سبر عوالم المهمشين والمشردين. ما جعله اليوم أحد أبرز سينمائيي الجيل الثاني من أبناء المهاجرين العرب في فرنسا إلى جانب مواطنه عبد اللطيف قشيش. لذا، حين أُعلن، في 2008، أن استوديوهات Gaumont أسندت إلى دريدي مهمة اقتباس رواية سيلفان إستيبال الشهيرة «رحلة لانكستر الأخيرة» («أكت سود» ـــ 2003) للشاشة الكبيرة، ساد الاعتقاد أنّ السينمائي التونسي سينال أخيراً التكريس الذي يستحقه على الساحة الفرنسية. حتى تلك اللحظة، كانت أعماله قد أُنتجت بميزانيات متواضعة، مع ممثلين مغمورين اختارهم من العوالم المهمّشة نفسها التي تدور فيها أفلامه. وإذا به أمام مشروع، بلغت ميزانيته 15 مليون يورو. كانت كل الظروف مهيأة، ليكون فيلم «الرحلة الأخيرة» حدث الموسم في فرنسا، وخصوصاً أنّه أول عمل فرنسي تظهر فيه ماريون كوتيار منذ فوزها بالأوسكار عن دورها في La Môme، الفيلم الهوليودي الشهير عن حياة إديت بياف.
وتقاسمت كوتيار البطولة مع زوجها الممثل والمخرج غيوم كانيه، في أول ظهور مشترك لهما على الشاشة منذ «ألعاب طفولية» (إخراج يان صاموئيل ــــ 2003). ما ضاعف من فضول الجمهور في فرنسا لاكتشاف الفيلم. وقد برمجته Gaumont إلى طرحه في كامل شبكة صالاتها (365 في مختلف المدن الفرنسية!)، فاستقطب أكثر من 300 ألف مشاهد، خلال الأسبوع الأوّل. كانت كل الإشارات تؤكد أنه يتجه نحو تصدر شباك التذاكر الفرنسي. لكن الأسبوع الثاني لم يمضِ على خير: لقد اجتاح الصالات الفرنسيّة «تسونامي» جارف اسمه Avatar!
قارنه النقّاد بـ«المريض الإنكليزي» ورأى فيه آخرون نفساً رومانسياً يذكِّر بـ«ذهب مع الريح»
كانت Gaumont قد تعمّدت إصدار «الرحلة الأخيرة» في الصالات الفرنسية، في منتصف كانون الأول (ديسمبر) الماضي، قبل أسبوع من طرح فيلم جيمس كاميرون، تحسباً لاحتمال أن يخيب Avatar الجمهور الذي كان سيحتاج، والحالة تلك، إلى فيلم بديل بارز. لكن العكس هو الذي حدث، إذ سحق Avatar منافسيه، مستقطباً أكثر من 5 ملايين مشاهد في فرنسا، وفوّت الفرصة على «الرحلة الأخيرة» لتحقيق النجاح الجماهيري المأمول. وهذا ما يفسر سبب تريث Gaumont إلى أن هدأت حمى Avatar لطرح «الرحلة الأخيرة» في الصالات العالمية، وصولاً إلى بيروت. على أمل أن تحقق عروض الفيلم الدولية نجاحاً يعيده إلى واجهة القاعات في فرنسا.
على الصعيد النقدي، لم يكن دريدي أوفر حظاً. أشادت الصحف الفرنسية بالفيلم، وقارنه بعضهم برائعة توني مانغيلا «المريض الإنكليزي»، فيما رأى فيه آخرون نفساً رومانسياً يذكّر بإحدى أشهر كلاسيكيات الفن السابع: «ذهب مع الريح» (فيكتور فليمينغ)! لكن تلك النظرات الاستشراقية المنبهرة بالفيلم، لأنه يتضمن مشاهد بصرية رائعة صُوّرت في الصحراء، لم تمنع الذين يعرفون مسار دريدي، من التعبير عن خيبة أمل كبيرة. المقاربة التي قدّمها صاحب «باي، باي» (1995) لرواية إستيبال اتسمت بالسطحية. وقد غلب على الفيلم المنحى الجمالي المنصب في إبراز سحر الصحراء وجاذبيتها الرومانسية. على الورق، كان دريدي يبدو الشخص الأمثل لاقتباس تلك الرواية: هو يتقن سبر أغوار الشخصيات الهامشية والإشكالية، مثل بطلة القصة ماري فاليار دو بومون، التي تهيم في الصحراء بحثاً عن حبيبها الطيار الإنكيزي الشهير بيل لانكاستر الذي تحطمت طائرته في صحراء النيجر، سنة 1933، بينما كان يحاول تحقيق رقم قياسي في الطيران.
إستيبال استوحى روايته من تلك القصة الواقعية، ووضع حكاية الحب المجنونة بين لانكاستر وبومون في سياق تاريخي حساس وإشكالي. في فترة أحداث الرواية، هناك بدايات تمرد قبائل الطوارق ضد الاحتلال الفرنسي في الصحراء الكبرى... وكان يمكن دريدي، المنشغل بقضايا الأقليات والمهمشين، أن ينطلق منها لإبراز معاناة هذه القبائل البربرية التي مزّق الاستعمار هويتها الثقافية، وشرّدها بين خمس دول في الصحراء الكبرى (مالي، موريتانيا، النيجر، الجزائر، وليبيا).
أما شخصية الضابط الفرنسي أنطوان شوفيه الذي أدّى دوره غيوم كانيه، وهو يتعاطف مع ماري بومون، ويرافقها في رحلة تيهها الطويلة في الصحراء، فقد جسّد في الرواية بدايات الوعي المعادي للاستعمار في صفوف الجنود الفرنسيين الشباب. لكن هذا البعد أُغفل في الفيلم، لحساب نزعة جمالية وشكلانية أفقدت القصة عمقها الإنساني. كل ذلك من أجل التشبه بـ«المريض الإنكليزي» ودغدغة المخيلة الاستشراقية العتيدة!

«غراند سينما ABC» (الأشرفية، 01/209109)، «لا سالينس (ضبيه، 06/540970)، «كونكورد» (فردان، 01/343143)


غجر ومهاجرون

كان كريم دريدي في الثانية عشرة من عمره، حين بدأ يراكم تجربته السينمائية. رافقت هذه الصنعة السينمائي التونسي ــــ الفرنسي منذ وقت مبكر، قبل أن يتوجها بشريط «باي باي» عام 1995 الذي كان مدخله إلى عالم الاحتراف والشهرة، إثر اختياره في تظاهرة Un Certain regard في «مهرجان كان» السينمائي. ولد دريدي في تونس العاصمة، من أب تونسي وأم فرنسيّة. أخرج أفلاماً قصيرة ثمّ دخل من خلال شريطه الروائي الطويل الأول «بيغال» (1994) المسابقة الرسميّة في «بينالي البندقيّة». اهتمّ صاحب «خارج اللعبة» (1998) بالفروقات الثقافيّة والاجتماعية، فعبقت أعماله بوجوه النشالين وراقصات العري ولاعبات المصارعة والمهاجرين. عام 1999، أنجز وثائقياً بعنوان «كوبا فيليز» في عمل يحتفي بكوبا وبالموسيقى، وغاب ليعود عام 2008، في شريط «خامسة». في عمله هذا، تعقّب رحلات الغجر المقيمين في مدينة مارسيليا (جنوب فرنسا).