بيروت العصر الذهبي برسم البيع! «ستديو بعلبك» الذي كان أول صرح يقدّم أفلاماً بالألوان قبل مصر، سيصير من الماضي بعدما اتُّخذ قرار بهدمه مقابل... موقف للسيارات. إليكم مأساة شعب بلا ذاكرة
باسم الحكيم
سيهدمون قريباً «ستديو بعلبك»! لا تنزعجوا، فالعاصمة ستسفيد قريباً من مرأب واسع في منطقة حرش تابت (شرق بيروت) بدل الصرح الثقافي التراثي، بعدما اكتظت شوارع بيروت بالسيارات. ولاحقاً، سيرتفع مبنى مشيّد على الطراز الحديث، بدل الاستديو الذي كان مركزاً لاستقطاب الفنانين اللبنانيّين والعرب. الأجهزة القديمة للاستديو، الذي كان شاهداً على عصر بيروت الذهبي منذ الخمسينيات، بيعت بالمزاد العلني. وما بقي من محتوياته من أشرطة وبعض أدوات التسجيل، يباع الآن بـ«الكيلو»، لمن يرغب في اقتناء شيء من ذاكرة الوطن!
هكذا، صارت «ذاكرة وطن» برسم البيع، ولا أحد يحرّك ساكناً. ولعل الممثلة ليليان نمري هي وحدها التي فكّرت في فتح غروب على «فايسبوك» حمل عنوان «الاستنكار الشعبي لهدم ستديو بعلبك»، وضمّنته موضوعات عن تاريخ الاستديو منذ تأسيسه في الخمسينيات (راجع الكادر). تقول نمري: «كنت صغيرة أزور الاستديو مع والدتي عليا نمري، التي كانت تضع صوتها على الأفلام اللبنانيّة التي كانت تصوّر يومها. عندي حنين إلى هذا المكان، الذي لم تعرف دولتنا كيفيّة الإفادة منه، وها هي تحوّله إلى مرأب للسيّارات». وتتوقف عند مجموعتها على «فايسبوك»: «لست وحدي في «الغروب». معي مخرجون وشباب متأثرون بالأمر». وتسارع إلى القول: «استنكارنا لما يحصل نابع من خوفنا على بقيّة الصروح الثقافية والمواقع التي صنعت السينما والدراما في هذا البلد، وكل ما هو مرتبط بالذاكرة».
أسّست ليليان نمري مجموعة على «فايسبوك» وإلياس الرحباني يدعو إلى تحرّك عاجل
أما الملحن إلياس الرحباني، الذي لم يتمكن من ضبط أعصابه حين علم بالخبر، فيواسي نفسه بوعد وزير الثقافة سليم وردة، الذي طلب إيقاف عمليات الهدم قبل يومين. ويشرح: «هذا الاستديو هو أحد آثار لبنان. حين بدأوا ببنائه، كنت أمضي ساعات مع العمال كأني مهندس معماري». ويرى أنّ «نسبة كبيرة من تراثنا في الشرق تحمل توقيع «ستديو بعلبك»، بدءاً من فيروز وصباح ووديع الصافي وعاصي ومنصور، مروراً بزكي ناصيف وتوفيق الباشا وفيلمون وهبي، وليس انتهاءً بعبد الوهاب وعبد الحليم. لقد كان مثل هوليوود». ويرى الرحباني أنّ هدمه لا يختلف عن هدم قلعة بعلبك، سائلاً: «لماذا تهدم الدولة كل شي يربط اللبنانيّ بأرضه»، داعياً إلى تجمع أمام الاستديو، لعله يجدي نفعاً بعد.
ويسترجع السينمائي شوقي متّى ذكرياته في الاستديو «هو أول استديو يقدم أفلاماً بالألوان قبل مصر، وكانت بعض شركات الإنتاج الأميركيّة تطبع أفلامها فيه». وينتقد متّى إهمال الجهات المعنيّة، موضحاً: «لو كان لدينا نقابات ووزارتا ثقافة وإعلام ومجلس وطني للإعلام، لما حصل ما حصل. يبدو لي الأمر كأننا نبيع مجلس النواب أو قلعة بعلبك، هذا صرح ثقافي». ويسأل: «أين يريدون أن نطبع أفلامنا، هل نسافر إلى تركيا مثلاً؟». ويستنكر متّى بيع محتويات الاستديو «كيف باعت الدولة؟ وهل تملك الحق في ذلك؟ ما يحويه الاستديو صار من التراث. يجب أن يظل كذكرى في الاستديو، ثم يجهّز بمعدات جديدة». ويدعو متّى وزير الثقافة والنقابات الفنية إلى التحرّك «وإلّا فنحن نسمسر هذا البلد».
نقيب ممثلي المسرح والسينما والإذاعة والتلفزيون جان قسيس يتفق مع شوقي متى على ضرورة النهوض بالاستديو. ويذكّر بما حصل في حالة «التياترو الكبير» (وسط بيروت) الذي ابتلعته مشاريع الاستثمار. «طالبنا ولم يردّ علينا أحد في وزارة الثقافة. صار الوسط الفني مصاباً بإحباط مزمن، لأن استثمار الأرض أهم من أي مشروع ثقافي، مع أن المتحف يدر مدخولاً كبيراً على البلد». ويعلّق الإعلامي والمسرحي عبيدو باشا بأنّه «مؤسف أن نتخلّى عن كيان له موقعه في تاريخ لبنان الحضاري والثقافي، وقد مثّل البنية الأساسية لقيام السينما اللبنانيّة».
أما مديرة جمعية «متروبوليس» هانية مروة، فتقول: «قصدت المكان منذ أسبوع لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بعدما علمت بأمر الهدم. وكان الأرشيف في مكانه، وكان في المبنى من يبيع المحتويات والمعدات التي لا تُستخدم اليوم، وتصلح لأن توضع في متحف. الأسطوانات والريلات ضربها العفن، ولا أدري إذا جرى التصرف بجزء من الأرشيف قبل دخول «جمعية أمم للبحث والتوثيق» على الخط، وهي المكلّفة الحفاظ عليه، بعدما صار في عهدتها. نحن أخذنا ما أخذناه كي لا يرمى في النفايات». تسلمت مروة جهازين قديمين ستعرضهما في «متروبوليس»، لكنّها تسأل: «كيف تتخذ الدولة قراراً كهذا قافزةً على صلاحيات وزارة الثقافة؟». وتستنكر «استغناء الدولة عن أرشيف هو ملك البلد والأجيال القادمة»، وتوجّه اللوم الأول إلى وزير الثقافة، رغم أنّه طلب وقف الهدم أخيراً، لكن إذا استطعنا الحفاظ على المبنى، فقط لقيمته التاريخيّة.


حلم مجهض

تأسّس «ستديو بعلبك» في أواسط الخمسينيات، على أيدي رجلي الأعمال الفلسطينيين بديع بولس ويوسف بيدوس، واهتم بالموسيقى والأغنيات والأفلام السينمائية. وقبل أن يحمل اسمه الحالي، أنشئ الاستديو تحت تسمية «الشركة اللبنانيّة للتسجيلات الفنيّة». ومن مؤسسيه توفيق الباشا ونزار ميقاتي وزكي ناصيف (الصورة) وكامل قسطندي وصبري الشريف. كان الاستديو مقصداً للفنانين من مختلف الأقطار العربيّة. ونهض بالسينما اللبنانيّة، قبل انهيار «بنك انترا»، ثم أتت الحرب وقضت عليه، ولم تتحمل الدولة أعباءه ما أدى إلى إقفاله. لكن عام 1992، أعيد افتتاح الاستديو، ليحتضن بشكل أساسي المشاريع الطلابيّة... إلى أن جاء 2010، ليقضي على حلم النهوض به.