يختتم مهرجان DOX BOX دورته الثالثة الخميس في دمشق. وقفة سريعة عند تجارب شبابيّة، هي أقرب إلى مقترحات فردية ومستقلة تتفحّص الهامش، وتذهب إلى العشوائيات
دمشق ــ خليل صويلح
لولا حفنة الأفلام التسجيلية السورية التي حملت تواقيع مخرجين جدد، في تظاهرة «أيام سينما الواقع»، لكنا قد نسينا وجود هذا الاتجاه الفنّي في السينما السوريّة. غابت السينما التسجيلية عن الشاشة السورية منذ عقدين على الأقل، عدا التجارب اللافتة التي تحمل اسم عمر أميرالاي. سنتذكر شريط هذا الأخير «الحياة اليومية في قرية سورية» (1974) الذي أنجزه بمشاركة سعد الله ونوس بوصفه نموذجاً حارّاً وإشكالياً في كتابة سينما الواقع. لكنّنا لن نجد في ما تحقّقه الأصوات الجديدة صلة قرابة مع أفلام هذا الرائد.
ما شاهدناه في «أيام سينما الواقع» أقرب إلى الريبورتاج التلفزيوني، بذهابه إلى مواضيع ساخنة والاكتفاء بـ«الفضيحة»، من دون التنقيب البلاغي والجمالي في أبعاد الصورة، إضافةً إلى الانفلاش في حركة الكادر.
في شريط «كلام حريم» الذي كتب السيناريو له عدنان العودة وأخرجه سامر برقاوي، تذهب الكاميرا إلى قرية بائسة على ضفاف الفرات في رهان على غرائبية هذا الفضاء السحري الذي يعيش أهاليه محنة قيم اجتماعية صارمة تضع المرأة في زاوية ضيّقة. تغيب صورة هذه الأخيرة داخل كادر أسود، في شريط لم يتوغّل ــ على أهميته ــ في أسباب اضطراب ميزان القيم الريفية الذكوريّة. من جهته، يختار نضال الدبس في شريطه «حجر أسود» (سيناريو خالد خليفة) حيّاً فقيراً عند تخوم دمشق ويشتبك مع يوميات أربعة أطفال يعيشون حياة مزرية، يكتشفون مباهج العاصمة، ويتطلّعون إلى أحلام عصية.
وتكتشف لينا العبد في شريطها «نور الهدى» حيّاً عشوائياً (سريّاً)، في ضواحي دمشق، لتقتفي أثر صبية تسعى إلى إنقاذ عائلتها المقيمة في بيت من الصفيح وسط تلوّث المصانع المحيطة. ويراقب نضال حسن في «جبال الصوّان» يوميات نحّات فطري يجد في الحجارة شغفه الأبدي، تعويضاً عن خساراته الحياتية. ويأتي عمار البيك من منطقة سردية مغايرة في شريطه «سامية» عبر مونتاج تركيبي يرفده حس فوتوغرافي لقصص تنجدل في كادر مشبع بالتأويل. هكذا نلتقي جان ــ لوك غودار في الذكرى الستين لنكبة فلسطين و«سامية» الفلسطينية التي تهدي المخرج حجراً التقطته من حقل زيتون في رام الله، إلى رحيل الشاعر محمود درويش الذي سنلتقيه في فيلم غودار «موسيقانا».

سامر برقاوي، نضال الدبس، لينا العبد، نضال حسن، عمار البيك...
اللافت في هذه التجارب التسجيلية أنها مقترحات فردية ومستقلة تسعى إلى إضاءة مناطق معتمة، وفحص الهامش بعدسة مقرّبة وذهابها إلى العشوائيات والأحلام الموؤودة والطفولة المشرّدة. كأن المخرج السوري الشاب اكتشف فجأةً مناطق بصرية مهملة وما على عدسته سوى امتصاص ملامح من هذا الأرشيف الضخم للمصائر المجهولة لبشر يقبعون في الظل. لكن عوائق إنتاجية ورقابية تمنع هذه السينما من اقتحام المحظور. وإذا بالشريط يقف عند حدود الريبورتاج المصوّر في كاميرا تهتزّ وهي تختلس موضوعاتها تحت سطوة مطالب قنوات تلفزيونية متخصصة، تضع الجمالي في موقع متأخر. هكذا ينبغي أن ننظر بجديّة إلى الفرق بين سينما تسجيلية خالصة لها مقوماتها الجمالية، وأشرطة عابرة. وإلا ما الذي يجعلنا نستعيد إلى اليوم البدايات المهمة للسينما التسجيلية السورية التي رسّخ دعائمها عمر أميرالاي، ومحمد ملص، وهيثم حقي، ونبيل المالح وآخرون.