طبقة سياسيّة غير معنيّة بالفكر والإبداع
بغداد ـ حسام السراي
حين أُبلغ زعيم إحدى الكتل الطائفيّة في عام 2005 بأن حقيبة الثقافة ستكون من نصيبه، أجاب بعبارة صارت أشهر من نار على علم «أتعطونا هذه الوزارة التافهة وتأخذون الأهم!». هذه الجملة تختصر اليوم واقع الثقافة العراقيّة وحالها في ظل نظام محاصصاتيّ لا يوليها أي اهتمام يُذكر. بعد مرور أكثر من أربع سنوات على تأليف ثاني حكومة عراقيّة منتخبة ، ومع إجراء الانتخابات التشريعيّة لعام 2010، خرج المثقفون العراقيّون عن صمتهم قبل أسبوع من الانتخابات. إذ أصدروا بياناً يستبق أي اعتبارات لا تضع الثقافة في حساباتها المستقبليّة. البيان لم يكن ليأتي لولا توافر إجماع على تهميش الثقافة من قبل النخب السياسيّة التي أدارت البلاد بعد عام 2003. وما يؤكّد ذلك أنّ أبرز الأحداث الثقافيّة العراقيّة من نشاطات وإنجازات، قام بها ناشطون ومنظمات ثقافيّة مستقلة، ولم يكن للمؤسسات الرسميّة أي دور فيها. بل ركّزت هذه الأخيرة جهودها على إقامة فعاليات ذات طابع مهرجانيّ استعراضيّ، لا تنطوي على أيّ عمق وتأثير تراكميّ على الصعيد المجتمعيّ.
البيان أحاط بمجموعة نقاط مهمة تخص وضع وزارة الثقافة والمنظمات المدنيّة. وطالب بإنشاء مجلس للثقافة والفنون ورعاية الدولة للمثقف، وحماية حقوق الملكيّة الفكريّة التائهة في عراق اليوم، والحفاظ على حق التعبير والارتقاء بالثقافة العراقيّة من خلال المطالبة بتشريعات قانونيّة. هذه كلها ليست صعبةً على بلد مثل العراق يتمتّع بإمكانات لا بأس بها. لكنّ تحقيقها ليس يسيراً أيضاً في ظل التركيبة السياسيّة القائمة التي تحاول صياغة مشهد ثقافيّ يلائم توجّهاتها. مثلاً، لا يتوافر دعم لمدرسة الرقص والباليه، وليس هناك من التفاتة صغيرة إلى صالات السينما المدمّرة.
البيان الذي وقّعه حوالى 100 مثّقف بين كاتب وناقد وشاعر وموسيقي وفنان من بينهم فاضل ثامر، وياسين نصير وشيركو بيكيس، ومحمد خضير، وكوكب حمزة... غفل طرح أسئلة جوهرية كثيرة: مَن وقف في وجه تطور الثقافة في العراق بعد عام 2003؟ هل تقع المسؤولية على المسؤولين والسياسيين العراقيين وحدهم؟ أم هناك ثلة من المرتزقة انتقلوا بالمديح والتزلّف من عرش الطاغية إلى عروش زعماء الطوائف الجدد في العراق، وراحوا يصوّرون للمسؤولين «الضيقيّ الأفق» بأنّهم ممثّلو الساحة الثقافيّة والفنيّة؟
ولأنّ السجال بين السياسيّ والثقافيّ اتخذ بعداً تصعيديّاً في الصيف الماضي، وخصوصاً مع التظاهرة التي انطلقت دفاعاً عن حريّة التعبير (تظاهرة شارع المتنبي)، بعد توتر كان ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة، فقد كان لا بدّ من بيان مماثل أن يضع خطوطاً لقنوات الاتصال والتفاهم بين رجل السياسة العراقيّ وجموع الأدباء والفنانين. وكان الأجدى به أن يحدّد كيف لمجلس للثقافة والفنون أن يتأسّس في العراق من دون أن تضع الحكومة ــــ أي حكومة ــــ يدها عليه وتثبّت بعض متملّقيها فيه. وما موقف القوى والأحزاب السياسيّة من الثقافة المدنيّة وما فيها من فعاليات قد تحرّمها بعض هذه الأحزاب، لأنّنا كثيراً ما نرى محاولات التقرّب من المثقفين مع قرب الانتخابات، كنوع من التجميل لصورة السياسيّ أمام الناخبين. أمر ثان بدا حالة جديدة في المشهد العراقيّ، تباينت إزاءه آراء المثقفين العراقيين، هي ترشيح عدد لا بأس به من زملائهم إلى انتخابات 2010. وبالطبع، فإنّ الحملات الدعائيّة لـ«المثقفين المترشحين» ملأت شوارع بغداد، وتداخلت مع غيرها من الدعايات لرجالات الحكومة وأعضاء البرلمان. وعلى رغم

النخب السياسيّة مجتمعة على تهميش الثقافة

كون المثقف أكثر الحالمين والطامحين الى التغيير، نسأل: هل يمكن قبةَ برلمان تتنازعه إرادات ومصالح سياسيّة تحتكم للبراغماتيّة في اتخاذ قراراتها أن يتفاعل معها فرد يعتمد نهجه على الشك والبحث الدائمين عن الحقيقة؟ أليس من الأجدى أن يشغل مثقفون مناصب استشاريّة يمكنها أن تزيد من عقلنة الخطاب السياسيّ العراقيّ وتوجهه نحو الإرادة الوطنيّة أكثر فأكثر. وهنا، نتذكّر بفخر وأسى في الوقت نفسه الفقيد الباحث كامل شياع الذي شغل منصب مستشار وزارة الثقافة في بغداد. إذ إنّ التجربة كانت ناجحة ومتميزة بالنسبة إلى مثقف حيوي يعي دوره وسط زحام «الديناصورات الثقافيّة» التي لا تريد سوى أن تتصدر الواجهة. ولعلّ الاستراتيجيّة التي كتبها لعشر سنوات مقبلة للنهوض بالثقافة العراقيّة، هي خير دليل على مدى نجاحه... قبل أن يغتال في 23 آب (أغسطس) 2008. وإزاء من رشّح نفسه في انتخابات 2010، يدعونا تقرير وكالة عراقيّة مستقلة نُشر قبل أيام إلى أن ننتبه إلى تساؤل أحد الكتّاب الذين استُطلعت آراؤهم بشأن موضوع ترشّح المثقفين، فعلّق: «هل يمكن فيروزَ أن تكون رئيسةً للبنان أو طه حسين رئيساً لمصر، لأنّهما أكثر شهرة وحضوراً من أي رئيس في بلديهما؟».