ليست النظرة النقديّة وحدها ما يميّز كتابه الجديد «من العمارة إلى المدينة» (دار الفارابي). فالمعمار اللبناني الذي يؤرّخ لذاكرة بيروت بعد الحرب متوقّفاً عند «إعدام الوسط التجاري»، يكتب عن الشوارع والأحياء كشخصيات لها أسماؤها وهوياتها
جاد نصر الله
«هل أقرأ أدباً إبداعياً أم أقرأ كتابة متقنة في أمور العمارة والعمران وكيفيّات تنظيم المدن والضواحي والبلدات والقرى؟». لم يجد محمد دكروب سوى هذا السؤال ليقدّم به كتاب رهيف فياض «من العمارة إلى المدينة» (دار الفارابي ـــــ 2010). في سؤال الناقد اللبناني المعروف، مدخل إلى أسلوب هذا المعمار المركّب الذي يقارب العمارة من الزوايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويضعها في قالب روائي ممتع يسهّل على القارئ العادي الولوج إلى عالم العمارة المعقّد، حيث تقف إشكاليات حقيقية خلف القيمة الجمالية والرمزية لهذه الحقبة العمرانية المعاصرة في تاريخ لبنان.
عندما تقرأ مقالات فياض التي ضمّها الكتاب، يجابهك سؤال دكروب، ولو بأشكال متعددة. كتاب فياض هو الرابع له عن «دار الفارابي» بعد «العمارة الغانية والإعمار الموجع» (1999) و«العمران الذاكرة، العمران الوهم» (2000) و«العمارة ووعي المكان» (2004). هنا، يستأنف المعمار اللبناني نوعاً نادراً في المكتبة العربية، إذ يطغى السياق السردي على نصوصه العلمية، فتتحوّل معه الشوارع والمباني والأحياء العمرانية، إلى شخصيات لها أسماؤها وهوياتها الواضحة، إلى جانب المعرفة الهندسية بخلفياتها النظرية والتقنية. كأننا بالكاتب يحاول تلقين القارئ المفاهيم الهندسية المستعصية على اعتبار أنّ مشكلة الهوية في العمارة اللبنانية وأزمة الشركات العقارية كـ«سوليدير» و«أليسار» شأن عام يجب التصدي له. يضم الكتاب سلسة مقالات نُشرت خلال السنوات الماصية في «السفير» و«الأخبار»، إضافةً إلى مجموعة محاضرات ونقاشات ألقاها خلال مشاركته في منتديات هيئة المعمارين العرب. يتطرق فياض في الكتاب إلى أكثر القضايا راهنيةً، كالعمارة البرجية في النسيج المديني المعاصر التي تنتشر على طول ساحل بيروت، فتقضي على التناغم العمراني. «...إنها الفوضى والرأسمالية المتوحشة، تغيِّران الواجهة البحرية للمدينة، وتحجبان البحر عن كل الناس». هكذا، تفقد المدينة «مكوناً أساسياً من مكونات هويتها». وهو برفضه تعميم نموذج الخليج العربي، يعلّل رأيه بـ«أنّ امتداد الصحراء ساعد على تنظيم تموضع الأبراج في دبي، وفي الأراضي المردومة في قطر. أما عندنا في بيروت، في منطقة المارينا الغربية، فالأرض ضيقة، والمجالات نادرة، والأبراج مكتظة متلاصقة. تكاد تشعر، كأن المكان قد فقد هواءه، وسيصاب الجميع فيه بالاختناق».
وفي فصل آخر، يبرز فياض كمؤرخ لمرحلة إعادة إعمار بيروت بعد الحرب الأهلية وجريمة إعدام الوسط التجاري: «انتُزع قلب بيروت من مالكيه ومن سكانه وشاغلي الدكاكين... والقلب لا يعمّره العابرون، فصار قلب بيروت هذا بلا قلب». ثم يتطرق إلى الخطة الشاملة لإعادة ترتيب الأراضي اللبنانية وتأثيرها في المجال العام، وفي علاقة الإنسان بمحيطه. لا يوفر فياض أيّ جهد للاستعانة بجميع الموارد البحثية التي يمكن أن تُغني النص بالحجج العلمية. تارةً، يحيلك على الجغرافيا، وطوراً على التاريخ الاجتماعي والسياسي لبيروت منذ العثمانيين، محدّداً الإطار الجغرافي للمدينة، ومحلّلاً سيرورتها عبر التاريخ. ويصل إلى استنتاجات يَصعُب على خصمه دحضها من دون امتلاك الأدوات المعرفية نفسها. مَن منَّا يعرف التاريخ الحقيقي للسرايا الكبيرة؟ يحكي لنا فياض عن «القشلة» التي شيّدها العثمانيون، وكيف صارت لاحقاً بعد ساحة السرايا وقبل الحرب الأهلية، «مفتوحة على الطريق التي تجاوره، وكانت مجموعات الناس الآتية إلى وزارة الداخلية، تدخل من البوابة الجنوبية المطلة على شارع الجيش. أما مجموعات المستائين، والشاكين، والمتذمرين، والمحتجين، وذوي الحقوق الضائعة، والمتظاهرين، فكانت تدخل الساحة دون أيّ عائق، حتى تصل إلى البوابة الرئيسية في الشمال، فيُطلُّ عليها رئيس الوزراء من فوق الشرفة مخاطباً ومهدئاً؛ أما اليوم، فما إن تقترب منها، حتى تدرك أنّ كل المداخل إليها قد سُدَّت بإحكام».

الفوضى والرأسمالية المتوحّشة تغيِّران واجهة بيروت البحرية
هذا اختصار للتحول الذي طرأ على وظيفة هذه العمارة العسكرية في الأساس، وتذكّر بها «عمارته بشبابيكها العمودية المتشابهة، المتكررة بلا نهاية بأصله العسكري»، وكيف كان هذا المكان مقصداً للمواطنين وصرحاً لشكواهم، ثم صار مقفلاً وزنّرته الأسلاك الشائكة والعوائق الحديدية. وللعمارة التراثية فصل مستقل، حيث يعرض فياض مداخلته خلال المؤتمر الاستثنائي الذي عُقد في حلب بعنوان «حلب بين التراث والمعاصرة». هنا، لخّص فياض فكرته بأنّ المطالبة بالحفاظ على هذا الإرث إنما «لنتعلم منها (العمارة التراثية) لا لننقلها، ولنوسع قدراتنا على الاختيار وعلى الإبداع في آن واحد».
وما يميّز هذا الكتاب الجديد أنّ فياض أضاف إليه تجربته الشخصية في إعادة الإعمار عبر إشرافه على إعادة إعمار الضاحية الجنوبية. فياض كان قد نشر في «الأخبار» مقالاً نقض فيه كل الجدل الدائر بعد حرب تموز سائلاً: «نعّمِر الضاحية؟ أم نعمِّر ما دمرته الحرب فيها؟». سؤال غيّر مسار البوصلة، وأتاح له الفرصة بتقديم صورة مغايرة لما جرى في الوسط التجاري. وهو يرى في تفاعله المباشر مع أهل «جنوب بيروت» «شكلاً من أرقى أشكال الديموقراطية المباشرة، والرؤية المتقدمة لإعادة التصميم المعماري بمشاركة المنتفعين مباشرةً».