عن «حجرتان وصالة» والعجَلة التي لا تتوقّفالقاهرة ــ محمد خير
«حينئذ غادر المكان وعبر الصالة إلى المطبخ. فتح الثلاجة وأغلقها، ورفع غطاء الحلة الموجودة على البوتوجاز ووضعه. ثم ترك المطبخ ودخل الشرفة الصغيرة واستند بجسده إلى سورها الحجري القصير، ورأى النوافذ والشرفات البعيدة الخالية». إذا كان الاستبعاد من أبرز تقنيات فن القصة، فإنّ إبراهيم أصلان هو بلا شك أحد ملوك الاستبعاد في القصة العربية. ها هو صاحب «مالك الحزين» يترك شوارع أمبابة معتصماً بالمنزل، عائداً إلينا بكتابه الجديد «حجرتان وصالة» (الشروق ـــ القاهرة). هنا، يمارس نزقه الخاص، فيصف كتابه بأنه «متتالية منزلية». المشاهد الـ28 التي يضمها الكتاب، ليست تماماً كما يشرح التصدير على غلافه: 28 حكاية منزلية عن «زوجين». الواقع أن الزوجة تغادر أسرع من المتوقع، ترحل عن حياة رفيق دربها قبل منتصف الكتاب/ الحكايات، ما يجعلنا بصدد حكاية الزوج مع وحدته المنزلية، أكثر منها قصته مع شريكة عمره التي تركت له الوحدة والرعب من حوادث البيت: نسيان الشاي، فقدان التوازن، المرض المفاجئمنذ المشهد الـ12، نتلصّص على الكفاح الذاهل لعجوز طفل... ضدّ ذاكرته وحاضره معاً، والمتاهة الهائلة التي وجد نفسه فيها بعد رحيل الزوجة. إنها متاهة الأدوات المنزلية، علب الدواء، الأشياء الصامتة المستقرة فوق الأرفف وداخل الأدراج... العلامات هنا، تحل محل نماذج البشر الذين طالما نثرهم أصلان عبر إبداعاته المقلّة. أربعون عاماً من الكتابة، لكننا لم نصل معه إلا إلى كتابه التاسع فقط، والثمانية السابقة تنوعت بين قصة ورواية وسرد مفتوح... لكنها اشتركت في ابتكار الدهشة مما لا دهشة فيه، من التراكم اليومي للتفاصيل وتماس الحكايات البسيطة للبشر الذين لا ضجة لهم.
القاعدة لا تتغير هنا، إلا في إبحارها صوب المزيد من تنقية نفسها. في «حجرتان وصالة»، المشاعر والآلام تستمد سحرها ـــ وقسوتها ــــ من العاديّة التي طالما كانت ساحة أصلان، والزوجة كان مشهد موتها عادياً، إلى درجة أن فقيدها كان يبتسم وهو يحكي. غير أنه لا أحد كان يصغي حقاً. لسنا أمام جحود أبناء أو جيران، بل على العكس، نحن إزاء قوة الزمن نفسه، عجلات الأيام الثقيلة التي لا تتوقف، وتحيل الحياة التي عرفها الزوج هنا إلى شيء آخر، شيء لا يعرفه ولم يعدّ له. لنتأمله بعد رحيل الزوجة جالساً في المقهى. فيم يفكر؟ «كان قد قام بالأمس من قيلولته ليكتشف، بالمصادفة البحتة، أن إحدى ساقيه صارت أطول من الأخرى، ذلك عندما مدّهما أمامه وهما عاريتان، ووجد أن اليمنى تسبق اليسرى قليلاً. إلا أنه، بعد التجارب التي عملها وهو قاعد ثم عملها وهو واقف، والتي انتهت بأن لبس البنطلون بدلاً من الجلباب وربط الحذاء ووقف منتصباً، ومال برأسه وتطلع بحرص بالغ إلى أسفل، لاحظ أن قماش البنطلون به ثنية أو اثنتين على وجه فردة الحذاء اليمنى، وهذا معناه أن ساقه اليسرى هي التي صارت أطول».
صعوبة الاقتباس من الحكايات تتساوى وصعوبة سرد ما يحكيه الكتاب. تبدو المقاطع ــــ كالمقطع السابق ــــ عند اجتزائها أقرب إلى المفارقة في أفضل الأحوال، كذلك ستبدو الحكايات في حال تلخيصها معاً أقرب إلى صورة مكررة عن الحنين والوحدة. والسبب أن الدقة شبه الجراحية التي نُحتت بها التفاصيل، تسرّب المادة الإنسانية إلى العمل قطرة قطرة. إنها لا تحكي ما يحدث بقدر ما تحكي عما لا يحدث. لنستمع مثلاً إلى البطل في حديث تلفوني مع صديق قديم حتى لا يتذكره جيداً، إذ إن الصديق «بدأ يلهث وهو يؤكد أنه لا يتصور مقدار الراحة التي شعر بها بعد أن فعل ذلك. وقال: أسكت يا راجل. كلام فارغ. ثم تكلما في أشياء أخرى، وأنهيا كلامهما بضرورة الاتصال لكي يتفقا على موعد يلتقيان فيه». لا يبدو مهماً هنا أن يعرف القارئ ما هي «الأشياء الأخرى» التي تكلم فيها الرجل وصديقه، تماماً كما ليس ضرورياً أن يعرف الشيء الذي كانت تسأل عنه الزوجة بلا جدوى، لأنّه لا هي ولا الزوج يذكران الإجابة.

المشاعر والآلام تستمد سحرها وقسوتها من «العاديّة» التي طبعت كتابته الأدبيّة
يضعنا صاحب «وردية ليل» أمام قاعدة أخرى: لا يمكننا كقراء أن نزيد حكمةً عن بطل النص، لا يمكننا أن نتذكر ما ينساه أو نعرف ما يجهله، نحن نخوض معه التكوّن اليومي للملل ثم الخوف والحنين. نلمس معه الجدران نفسها التي يتخبط فيها. كنا قبل ذلك نشاهد شخصيات أصلان المتناثرة التي أحبتها السينما وقدمتها مرتين في «الكيت كات» ثم «عصافير النيل». ورغم انتفاء الميلودراما في النصوص، كنّا نندمج في الشذرات التي ينتقيها لنا المؤلف، محيلاً إياها بشراً أو أماكن أو حوادث أو حتى محادثات. الطزاجة الفريدة للمشهد الأصلاني كانت تجعلنا لا نتوقف كثيراً أمام طبيعة النص ذاته، أكان رواية أم قصة، فقد نتذكر الشخصية أو المشهد ويختلط علينا اسم العمل. لكننا هذه المرة لا نتفرج بل نتماهى في النزاعات الطفيفة بين البطل وزوجته قبل رحيلها، الحركة المتوترة قبل الرحيل وبعده، النزاع الداخلي في روحه بين إرادة الحياة وفقدان الرغبة فيها، تجوّله في المنزل والشارع وحديثه إلى الغرباء...
كل ذلك يُسرَد بمنحنيات لا نكاد نلمح أثر استداراتها. الصدمة والعنف هنا أمران مكتومان، تماماً كما هما في الحياة، كما هما في المنزل.