قصص توغل بصدق في جراح الجماعة

في «طيّ الخيام» يفضح القاص المصري «ازدواج» الهوية لدى معاصريه، ويسخر من الصورة النمطية للبدو، ويتجاوز «تخاريف الأجداد» معلناً التمرّد على الرواية الرسميّة للقبيلة

دينا حشمت
«تسكن داخلي في سلام خيمة بدوية كاملة، أتلمس خشونتها في الليل (...) وأمشي مزهواً في صحراء حجرتي مطوحاً ذراعي إلى أقصى مدى، مصمماً على أنه لا يكفي مطلقاً هذا الرفض الجميل المسالم الذي أبديناه لذلك الفلاح ـــــ زميلي في الدراسة ـــــ حين تجرأ وطلب الزواج من أختي، فلا بد أن يُسحق عقاباً على فعلته الشنيعة، وفي النهار أواصل السخرية من عادات البدو وتقاليدهم»: هكذا في «بطل وحيد»، القصة الـ15 والأخيرة من آخر مجموعات حمدي أبو جليل «طيّ الخيام»، يصوِّر الراوي ازدواجاً يفخر بأنه «أول مكتشف لروعته».
يتأمل الراوي الازدواج بين كونه بدوياً «تقليدياً جداً»، وانتمائه إلى جماعة المثقفين، بين رفضه زواج أخته من غير بدوي وتحريضه «خود» ـــــ في قصة بالعنوان نفسه ـــــ ضد مشايخ القبيلة حتى وقفت أمامهم «برأس عارية وشعر زادها استرساله ثقة وصلابة»، لتضجّ بالشكوى: «البدوي الأصيل ابن عمي الذي أرغمتموني على الزواج منه ليس على ما يرام في المسائل الزوجية».
هذا الازدواج يراه راوي «طي الخيام» وسيلةً مثلى لمواجهة التناقضات التي يعيشها وغيره من البدو في مصر القرن الحادي والعشرين: كيف يتجاوزون مرحلة الاستقرار على حواف المدن الذي أجبروا عليه؟ كيف يخرجون من الصمت الذي لجأوا إليه بعدما اكتشفوا أن «جفاف لهجتهم الصحراوية لا يناسب طراوة حواف القرى التي استقروا فيها إلى الأبد» (قصة «عمي عطوة»)؟ كيف يندمجون في دولة يحتقرون رموزها صراحةً كما نرى من خلال كلام أبي الراوي في «إنت الخفير؟!»، وهو ينظر إلى «نسر الحكومة مادّاً رقبته ببلاهة مضحكة تثير الشفقة»؟ كيف يتحررون من الصور النمطية التي تسيطر على المجتمع المصري، مثل تلك التي تجعل منهم فحولاً جنسيّة (في «دم غزير»، يطلب صديق الراوي القاهري من الراوي أن ينام مع زوجته لأنّه عاجز عن الإنجاب)؟ كيف يتحررون من صور يتناقلونها عن أنفسهم في روايات «دموية بدوية» التي تحكي عن «عشرة جمال هائجة»، و«بدوي ملتف بجرد صوف حتر عينيه، تتدلى من يده بندقية ملتهبة» و«بنت بدوية هائجة» وسط «صحراء قاحلة»؟
ما هكذا «تطوى الخيام» لأن الأشياء هذه ببساطة «لا تتمتع بوجودها الفعلي سوى في ردهات خيال خصب وكاذب». ومثلما شُغل راوي «الفاعل» بالتقارب قدر الإمكان مع ذلك الشعور المخجل لكاتب مثقف وابن عائلة بدوية مرموقة في الفيوم، حين يُكتشف أنه يعمل «في الرمل والزلط»، يحاول راوي «طي الخيام» مقاربة مشاعر «الازدواج» و«التردد» المتمردة على رواية القبيلة الرسمية (الكاذبة أحياناً) لتاريخ مجيد يتخلله العديد من الهجمات «على مراكز الشرطة»، وتاريخ مبهم مثلما يتبدّى لنا في «مراسم تسليم الدية».

يوظّف الشعر والسرد، مستوحياً تراثه البدوي

لم يكتب صاحب «لصوص متقاعدون» «كتاباً على شاكلة السيرة الهلالية أو «الزير سالم» عكس ما يتوقعه «راوينا» أو «راوي قبيلتنا» كما يقول، مستخدماً ضمير الملكية كأنما ليؤكد انتماءه إلى هذه القبيلة، وتلك الأعراف. لم يكتب مثل هذه القصص الملحمية. مارس فقط حقه في حكي مرحلة «طي الخيام» من وجهة نظره الخاصة، واستخدام تراثه البدوي الشخصي من خلال تضافر الشعر والسرد في قصصه. كأنه بهذه المجموعة يطلق مانيفستو راو بديل لـ«راوي قبيلتنا» ويستلهم بيان «خود» في مواجهة «المشايخ».
هذا الراوي يريد أن يفرض فرديته في مواجهة رواية القبيلة الجماعية، من دون أن يتنازل عن انتمائه إليها ومن دون أن يدّعي أنّه اخترع شيئاً جديداً. ألا يعترف في نهاية القصة الأخيرة بأنه كان يجهل أنّ «بدوياً عتيقاً وغشيماً مثل جدنا «عولة» مارس «الازدواج» قبله «بقرنين كاملين»؟ بهذه الطريقة يسخر حمدي أبو جليل حتى آخر سطر من كل شيء، حتى من ادّعائه تنصيب راو جديد للقبيلة... ويختم قصته بنوع من التواضع الذي يزيد من استمتاعنا بهذا التعمق الصادق في «الجرح» البدوي.