«تماسيح الميديا العرب» (تحرير دُنَتِللا دِلا رتّا، ناومي سكر، جاكُب سكفغارد ـ بترسن ــ دار «آي. بي. توريس»، لندن/ نيويورك ـ 2015) الذي تشارك في كتابة أقسامه الـ 11 مجموعة من البحاثة العرب والأوروبيين هو الأول في موضوعه. تكمن أهميته في أنه عمل تحليلي متكامل وفي الوقت نفسه من نمط الأبحاث الاستقصائية. المشاركون لا يكتفون بما يرد في الإعلام، المنحاز أصلاً إلى فكر أصحابه، بل يعملون على التنقيب المثابر في المراجع ذات الصلة.هنا لا بد لنا من تأكيد أن ترجمتنا المفردة الإنكليزية moguls إلى «تماسيح» ليست دقيقة ولا تعكس روح المعنى الأصلي، وكنا قد رغبنا في ترجمتها إلى حيتان/غيلان، لكننا تجنبنا ذلك بسبب أنّ المفردة العربية سلبية للغاية، مع أن الأستاذ طلال سلمان وصف مرة أنطوان شويري بأنه حوت من حيتان الميديا، على ما يرد في الكتاب، مع أنّ إحدى مؤسسات الأخير أضحت موزع صحيفة «السفير» ونقيضتها سياسياً، «النهار»، في آن، وهذه وفق ما يرد في المؤلَّف ويوصف بأنه إحدى مقدرات الراحل العبقرية.

من الجدير بالذكر هنا أن الصفة الإنكليزية مشتقة من mogol، أي من «المغول»، وتكون الترجمة الدقيقة لذلك: «مغول الميديا العرب». لكننا سنوظف الصفة تمساح/تماسيح عملاً باقتراح الصديق العالم منير العكش الذي تفضل مشكوراً بترجمة مقطع تعريف تمساح الميديا. كذلك ننوه إلى أن استعمالنا الاسم صفة وليس نعتاً وفقط من منظور العمل بما هو سارٍ من الكلام.
أعمال البحاثة تتناول أنشطة «التماسيح» الآتية أسماؤهم: الراحل أنطوان شويري «ملك الدعاية العربية»، الملقّب حتى أثناء حياتهLe President ودينامو فريق كرة السلة اللبناني «نادي الحكمة»، بيار الضاهر شيخ وبارون وتمساح «المؤسسة اللبنانية للإرسال»، الحريريان الأب والابن، صالح كامل (استثمار في الإسلام)، وليد الإبراهيم (تمساح تحديث الـ «إم. بي. سي»)، الوليد بن طلال (تماسيح الميديا ورأسمال الميديا)، طارق بن عمار (ملتزم الشبكات)، نجيب ساويرس (رأسمال كوني ومستثمر في الميديا المصرية).
الآن وقد عرفنا شخصيات الكتاب الرئيسة، من المفيد ذكر تعاريف التمساح وكذلك البارون وولي العهد التي وردت في صفحات المؤلف. المشاركون في المؤلف اتفقوا على التعريف الآتي العائد إلى جرمي تنسول ومايكل بالمر في مؤلفهما «تماسيح الميديا»Media Moguls:
نعرف «التمساح الإعلامي» بأنه الشخص الذي يملك أعمالاً ويدير شركات إعلامية كبرى، ويخوض مخاطر المقاولات، ويدير أعمال هذا الإعلام بطريقة شخصية وغير مألوفة. في ضوء هذه السمات، الشخصية وغير المألوفة، يجب أن يختلف أي تمساح إعلامي عن  التمساح الإعلامي الآخر. ونستطيع أن نذكر نماذج نمطية من مثل هيرست ومردوخ وبرلسكوني، لكن حتى هذه الأمثلة المتطرفة لا تتمتع بكل هذه السمات والخصائص التي يوصف بها التمساح الإعلامي.

العلاقات مع الحكام كانت أساس نجاحاتهم باستثناء الراحل أنطوان شويري وطارق بن عمار

إن استخدامنا لاصطلاح التمساح الإعلامي يشير إلى الشخص الذي شيد إمبراطوريته الإعلامية على نطاق واسع. هذا العنصر المقاولاتي يمكن أن يتضمن إطلاق مشاريع إعلامية جديدة. أما عملياً (أو بالممارسة) فإن «الاصطلاح» يتضمن شراء شركات إعلامية قائمة أو وضع اليد عليها وعلى نطاق واسع. بُعد المقاولاتي والتضخم هو الذي يميز التمساح عن «ولي العهد». ولي العهد هو مقاول إعلامي من الجيل الثاني يرث عن أبيه الرائد أملاكاً إعلامية رئيسة [...] ونحن نميز في تعريفنا «البارون». فالتمساح قد يكون مدعوماً بعدد من البارونات الذين يديرون أقساماً أو شركات ضمن مصالح التمساح الأوسع. وقد يكون البارون مديراً تنفيذياً، وقد يخاطر ببعض المقاولات، لكنه ليس المالك المطلق أو المسيطر على المشاريع عموماً.
يبحث المؤلف في مسائل عدة متوازية، في مقدمتها أن من الصحيح إطلاق صفة تماسيح الميديا، وفق التعريف آنف الذكر، على أي من الأشخاص المذكورين آنفاً وكثير غيرهم. لكن للوصول إلى هذا، تقوم كل باحثة وباحث باستعراض مسيرة كل منهم والشخصيات المتصلة بهم وكيفية وصولهم إلى الموقع الذي يشغلونه، بتفاصيل مثيرة حقاً. هذا يعني متابعة كل نشاطاتهم منذ البدايات وعلاقات كل منهم بالسلطة السياسية العربية وغير العربية التي لا تكترث إلا بالتأثير السياسي للميديا. محررو الكتاب يلاحظون أن السلطات الحاكمة في بلاد العرب لا تكترث بعدم تمركز الميديا في يدها لأن كل ما يهمها أن تخلق تلك جمهوراً مستسلماً لسياساتها وفكرها المتخلف. وعبر مختلف فصول المؤلف، نقع على أمثلة عديدة تثبت صحة وجهة نظر البحاثة. مثلاً، نقرأ كيف هرع طارق بن عمار ــ عبر قناته «نسمة» ـ لتلميع صورة طاغية تونس المخلوع بن علي.
آخذين في الاعتبار اختلاف الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في العالم العربي عنه في دول أوروبا، حيث يسري تعريف التماسيح، يرى الكتاب أن العالم العربي خلق شكلاً مختلفاً من «تماسيحه» في حقل الميديا. لذا، فإن البحاثة يسلطون الضوء على نقاط أساس أهمها: تأثير الأنظمة التسلطية واقتصاد النفط والإحياء الديني والاضطرابات السياسية في صعود «تماسيح» الميديا، هل أثرت خصخصة الميديا وإنشاء المدن الإعلامية في تغيير أعمال تماسيح الميديا أو إعادة تشكيلها أو نموها؟، هل يمكن البرهان على أن رجال الميديا العرب مارسوا دوراً في خصخصة السوق ولبرلته؟ هل هم رجال أعمال مجازفون حقيقيون وما مؤهلاتهم؟ من هم البارونات الأساس لرجالات الميديا؟ هل هم متنافسون أم متعاونون؟ ما مدى قربهم من مراكز السلطة وما عواقب ذلك؟ هل يوظفون أعمالهم لخدمة سياسات محددة أم أنهم يستخدمون السياسة لمنفعة أعمالهم؟
الوصول إلى إجابات عن هذه الأسئلة وغيرها دفع البحاثة إلى تحليل سِيَر «التماسيح» ومواقعهم في بلادهم. لذا، إن ما يرد في الكتاب من معلومات عن هذه الجوانب يكتسب أهمية خاصة آخذين في الاعتبار أن كل فصل يبحث في مجموعة من ملامح «التماسيح» والأبعاد الخاصة والشخصية والوطنية والدولية.
كذلك خصص كل باحث جزءاً من عمله للحديث في جذور كل «تمساح» العائلية ودور الأخيرة في صعود نشاطه الاقتصادي ومسألة التوريث، على سبيل المثال الشيخ سعد الحريري وريث رئيس وزراء لبنان المغدور رفيق الحريري، وكذلك الورثة من آل شويري، وغيرهم.
عرض البحاثة علاقة كل من رجالات الميديا بدائرة القرار في السلطات القائمة وتأثير ذلك في تطور العمل واتساع دائرة نشاطه ومدى انخراط كل منهم في صناعة القرار السياسي، والاقتصادي طبعاً.
لاحظ المشاركون في الكتاب أن تماسيح الميديا العرب، المشار إليهم في هذا العمل، لم يصعدوا السلم من البداية خطوة خطوة، حيث توافرت لهم الأموال للانخراط في مشاريع كهذه. لكن العلاقات مع الحكام، لا القوانين، كانت أساس نجاحاتهم في الحقل الذي اختاروه. ويبدو أنّ البحاثة يستثنون كلاً من الراحل أنطوان شويري وطارق بن عمار. كذلك لاحظوا أن دوافع انخراط بعض التماسيح العرب في حقل الميديا لم يكن الربح حيث يصعب فصل ذلك عن السياسة، وهو الأمر الذي يلاحظ في حقل الدعاية الذي يستخدم لطرد غير المرغوب فيه من السوق. فقد لاحظوا أن العديد من تلك المشاريع فاشلة مادية لكنها مستمرة في عملها!.
ومن الأمور الأخرى التي دفعت بعض تماسيح الميديا إلى الانخراط في السوق رغبتهم في التأثير سياسياً وفكرياً في الرأي العام. فقلة قليلة من القنوات (يذكر البحاثة «المؤسسة اللبنانية للإرسال») تمتعت بجني بعض الأرباح أحياناً، لكن ذلك استدعى إعادة بناء دورية واستثمارات مستمرة. ويشير الكتاب إلى تجارب كل من بيار ضاهر والراحل أنطوان شويري والمغدور رفيق الحريري في مجال إعادة البناء في مؤسساتهم.
ويعرج الكِتاب على إمبراطورية المغدور رفيق الحريري وينوه إلى الدور الأساس الذي مارسه من خلال كونه في هرم السلطة، ويؤكد أنه أدار لبنان كمؤسسة خاصة له، بالتعاون مع سوريا، ما سمح له بممارسة دور أكبر في لبنان، حتى في حقل الميديا ومن ذلك، على سبيل المثال، التضييق على قناة «الجديد».
أما الصفوة التي تعلن التزامها سياسة إصلاحية، مثل وليد الإبراهيم والوليد بن طلال، فإنها جزء من نخبة وجزء لا يتجزأ من أنظمة لاديمقراطية ولاليبرالية، وبرامجها «الإصلاحية» لا تهدف إلى إسقاط تلك الأنظمة الديكتاتورية وإحلال نظم ديمقراطية محلها، بل إلى تلميع صورة الأنظمة الشمولية، خصوصاً دول الخليج الفارسي.
كذلك يبحث الكتاب في دور بعض رجالات الميديا العرب في التغيرات الوطنية ومدى ابتعاد بعضهم عن التغيرات في بلادهم أو عكس ذلك، ومثال ذلك كل من طارق بن عمار وقناته «نسمة» في تونس، ونجيب أنسي ساويرس وقناته ONTV› (سابقاً) في مصر.
في الفصل الثاني «أشكال إدارة الميديا في العالم العربي»، يعرج الكاتب جو خليل على بعض مؤسسات الميديا خارج «دول التماسيح» المذكورة آنفاً، ومن ذلك في سوريا منذ عام 1980 حيث يقدم أمثلة من تطور بعضها. ومن الأمثلة التي يسوقها «شركة الشام الدولية» التي تعكس ارتباط الاقتصاد بالسياسة. بسبب قربها من صناع القرار في دمشق، تمكّنت من فرض أسعارها على القنوات الوطنية السورية وفرض إنتاجاتها على برامجها. تُضاف إلى ذلك شركات أخرى أفادت من ارتباط أصحابها بالنظام للاستثمار في حقل الميديا ومنها «حلب الدولية» و«بصرى الدولية» و«الوسيط»، عِلماً بأن البحاثة وضعوا أسماء الشركات الإنكليزية بدلاً من العربية!
ويشير البحاثة إلى أدوار أصحاب شركات ميديا أخرى مارست أعمالاً في المجال ذاته ومنها مثلاً السعودي فهد الشميمري مؤسس شركة «المجد» التي كانت تنجز أعمالها من عمان والإمارات، والمصري جمال أشرف مروان صاحب مجموعة «ميلودي»، وسهيل العبدول (نجوم تي في)، ومحسن جابر («مزيكا» و«عالم الفن»). يحوي المؤلف معلومات كثيرة لم تكن معروفة من قبل، إضافة إلى عشرات الأسماء الناشطة في عالم الميديا مباشرة أو على نحو غير مباشر، قد يكون أغلبها غير معروف لدى معظم القراء، ومنها، إضافة إلى المذكورة في الفقرات السابقة: أحمد بهجت، صلاح دياب، إبراهيم عيسى، حسن راتب، محمد جوهر، طارق نور، سيد البدوي، هشام قاسم، وليد أبو ضهر، عمرو أديب، جمال عرفاوي/العرفاوي [؟]، محمد البرادعي، آصف بيات، بتينو كراكسي، فهد بن عبد العزيز، مجدي الجلد، سمير جعجع، إلياس غربي، عبد الله الغثمي، لميس الحديدي، محمد حسنين هيكل، حمدي قنديل، رامي مخلوف، جمال مبارك، محمد مرسي، روبرت مردوخ، ميشال المر، عبد الرحمن الراشد، معمر القذافي، عبد المنعم سعيد، أحمد سلمان، منى الشاذلي، تركي شبانة، طارق سويدان، المغدور جبران تويني، وغيرهم كثيرون. هذه اللائحة المختصرة تعكس المساحة الكبيرة في عالم الميديا العربي التي يغطيها الكتاب.
الواقع أنّ هذا الكتاب معلم رئيس يملأ ثغرة واسعة في المعلومات عن عالم الميديا في البلاد العربية وارتباطاتها المحلية والدولية وبالطبقات الحاكمة وتأثير ذلك في سياساتها وبنيتها ونموها. ويوضح العلاقة المتينة التي تربطها بالأنظمة القائمة وكيفية توظيفها لخدمة الحفاظ على الأنظمة القائمة والفكر السائد ومحاربة كل ما يمكنه أن يشكل تهديداً لأنظمة التخلف التسلطية.
في ظننا أن هذا المؤلَّف يجب أن يتصدر مكتبة كل من له علاقة بالإعلام، من إعلاميين ودارسين وبحاثة، آخذين في الاعتبار وصفه بأنه تغطية إعلامية سريالية من جانب معظم وسائل الميديا العربية للتحركات الشعبية الأخيرة في لبنان، وللأحداث المأسوية التي تشهدها بعض بلاد العرب، في سوريا والعراق وليبيا واليمن والأراضي الفلسطينية المحررة والمحاصرة.