بول غيراغوسيان ترجّل في الطيّونةبيار أبي صعب
إذا كان الفنّانون هم حرّاس المدن بامتياز، المؤتمنون على ذاكرتها الهاربة، فإن روجيه عسّاف هو راوي المدينة وعرّافها أيضاً، ضميرها وطارح أسئلتها الحارقة. في «مدينة المرايا»، عمله الجديد الذي يفتتح الليلة في بيروت، يبني المسرحي اللبناني جسراً افتراضيّاً بين أمكنة مختلفة، وأزمنة متقاطعة، حائماً كعادته حول الجراح نفسها. المشروع يراوده منذ فترة: استعادة القدس، تلك المدينة المستحيلة التي تسكن مخيّلتنا، من خلال مدخل ذاتي ومفاجئ. القدس كما يمكن أن نراها من بيروت، أختها الصغرى: «بيروت لم تعرف نهضتها وانتعاشها، ولم ينطلق دورها الريادي فعليّاً، ولم تكتسب طابعها الكوسموبوليتي، إلا بعدما رزح بيت المقدس تحت نير الاحتلال في نكبة ١٩٤٨»، يلفت الممثل المتعب وهو يمسّد لحيته البيضاء، ملتقطاً أنفاسه بين جولتي تمارين في «دوّار الشمس».
تتزامن المسرحيّة مع اندلاع الغضب الشعبي في شوارع القدس
لكنّ روجيه عسّاف الذي كتب النصّ وأخرجه ويؤدّيه شبهَ منفرد (يسنده في التمثيل المسرحي الشاب جاد حكواتي)، لا يحتكر دور البطولة. البطل الفعلي للعرض، و«الوسيط» بين أزمنته المتعددة، هو فنّان صديق، يبعثه على الخشبة، يحاوره ويروي فصولاً من حياته، يتقمّصه وشخصيات أخرى طالعة من حكاياته ولوحاته. مسرحيّة «مدينة المرايا» تحيّة إلى بول غيراغوسيان (1926 ــــ 1993)، أحد رموز العصر الذهبي لبيروت. لفرط ما احتفينا بهذا الفنان الرائد في لبنان، نسينا أنّه فلسطيني، مقدسي تحديداً. قد يجهل كثيرون اليوم، أن ابن العائلة الأرمنيّة الهاربة إلى فلسطين من تركيا بعد مجزرة ١٩٠٥، ولد في القدس، وفيها ترعرع وبدأ يرسم... ثم شهد هناك على مجزرة جديدة، فنزح إلى بيروت في عام ١٩٤٨، ليصبح محطّة أساسيّة في حركتها التشكيليّة والثقافيّة.
بحث روجيه في الأرشيف، التقى عائلة غيراغوسيان وأصدقاءه في بيروت، غاص في لوحاته، راجع حواراته المكتوبة والمسجّلة، عاد إلى كتب التاريخ والسيرة. الحصيلة عمل «مسرحي تشكيلي» ـــــ كما يعرّف به صاحبه ـــــ يجمع كل أدوات عسّاف «الاحتفاليّة» ومشاغله الـ «ما بعد بريختيّة»، ويحيل إلى محطّات خصبة في مسيرته من «حكايات الـ ٣٦» إلى «مذكّرات أيّوب». العمل يجمع بين السرد والتمثيل، بين المسرحين التسجيلي والاختباري، ويعتمد على عروض الفيديو في تطبيق خاص لأمثولة بيسكاتور الذي وضع العرض البصري المتحرّك في قلب رؤياه الإخراجيّة.
تدخل الـ «فيديوراما» (مختار حاسبيني) في صلب البنية المشهديّة والدراميّة للعمل. على شاشة ثلاثيّة في عمق الخشبة، تتوالى وثائق فوتوغرافيّة قديمة، واشارات تاريخيّة، ورسوم ذاتيّة وصور للفنان الراحل، ومقتطف من حديث مسجّل معه. نعيد اكتشاف زيتيّات غيراغوسيان الشهيرة التي تتقاطع مع المَشاهد... الشخوص تتسرّب منها أحياناً لتعيش في المسرحيّة، مثل ذلك الرجل الذي يموت في العاصفة الثلجيّة. إنّه والد غيراغوسيان، العازف الضرير الذي سرق الاتراك بصره. تلك الشخصيّة تشرّع العرض على الموسيقى، بفضل شريط صوتي غنيّ ومنوّع (لمى صوايا ـــــ مع مشاركة للموسيقي زاكار كيشيشيان، والمغنّية آيلين خاتشادوريان)... ويستعين عسّاف بشخصيّة واصف جوهريّة، وهو فنان مقدسي شهد فورة المدينة وحركة الصالونات التي ارتادها فريد الأطرش وأمّ كلثوم ونجيب حنكش وبديعة مصابني...
إنها الليلة ما قبل الأخيرة قبل الافتتاح، والورشة في أوجها هنا في الطيّونة... العرض يتشكّل أمامنا، ويهتدي إلى ملامحه (شبه) النهائيّة. مسرحي شاب (فؤاد يمّين، مساعد مخرج) يعطي تعليماته الصارمة لروجيه المطواع على الخشبة. مختار يحاول إسقاط جملة في مكانها المناسب على الشاشة، ولمى تريد أن تعرف بعد أي كلمة عليها أن تطلق موسيقى العود. وليد دكروب يجرّب بعض الأكسسوارات، وبشارة عطا الله لم يأت بعد بالملابس...
في الظلام، نتذكّر التدريبات على «أيّام الخيام» في بيروت الثمانينيات. طريقة روجيه في العمل لم تتغيّر، وتجاربه لا تكتمل من دون تلك الحركة الشابة والحيويّة حوله.
«القدس ليست الأماكن المقدّسة فقط» يصرّ روجيه عسّاف، «إنّها مدينة وناس وقصص، حياة يوميّة وفرح ومتعة... صادرها الاحتلال». عرضه محاولة لاستعادة ذلك الزمن الضائع، من خلال فنّ غيراغرسيان، وذاكرته، وأفكاره، ونظرته الصوفيّة إلى «وحدة الوجود»، وحياته المدهشة التي جمعت بين مجازر أرمينيا ونكبة فلسطين والحرب الأهليّة اللبنانيّة... يتزامن انطلاق «مدينة المرايا» مع اندلاع الغضب الشعبي في شوارع القدس، احتجاجاً على سياسة تهويد المدينة. لا تسألوا روجيه كيف وقّت عمله مع تلك الانتفاضة، فالمسرحي الرائي المسكون بجراح الجماعة، يقف كدأبه دائماً على أرض الحدس والاستشراف.

8.30 مساء اليوم، حتّى 4 نيسان (أبريل) المقبل ــــ «مسرح دوار الشمس» ــــ للاستعلام: 01/381290