ست سنوات مرّت على رحيلها... وإذا بزوجها الكاتب ياسين رفاعية يصدر باكورتها الروائية التي بقيت في الأدراج، فيما اتجّهت صاحبتها إلى الشعر. وقفة عند «الرواية الملعونة» (دار الساقي)
حسين بن حمزة
كيف نقرأ عملاً يُنشر اليوم للمرّة الأولى، بعد 43 سنة على كتابته؟ هل نقرأه بمعايير الزمن الذي كُتب فيه وشروطه أم بمعايير الزمن الراهن وشروطه؟ هذا ما نقوله لأنفسنا ونحن نقرأ رواية «الرواية الملعونة» (دار الساقي) للشاعرة السورية الراحلة أمل جرّاح. المفاجأة هنا أن صاحبة «صفصافة تكتب اسمها» بدأت من الرواية، قبل أن تنتقل نهائياً إلى الشعر. لا نعرف ما إذا كان حجب الرواية عن القارئ جعلها يتيمة، أم أن المؤلفة نفسها توقفت طواعية عن مشروعٍ روائي يبدو أنه كان واعداً بحسب اللغة والسرد المتوافرين في روايتها. هناك ملاحظات عدة يمكن الحديث بشأنها، لكنّ الرواية لا تزال تحتفظ بجاذبية معينة، وخصوصاً لجهة تجرّؤها على ارتياد منطقة محرَّمة دينياً واجتماعياً من خلال رغبة بطلة الرواية في خوض علاقة حب كاملة مع والدها.
هل تكشف الرواية جانباً من سيرة شخصية للجرّاح؟ هل تردّدها في نشر الرواية عائد إلى رغبتها في طيِّ لحظة جرأة متهوِّرة؟ لماذا تُنشر بعد رحيلها؟ وهل حصل ذلك بموافقتها؟ أسئلة تظل بلا أجوبة، ما دمنا نجهل السبب الحقيقي.
نعود إلى الرواية نفسها التي تجري وقائعها في دمشق، والمكتوبة على لسان البطلة حنان، الطالبة الجامعية التي تبدأ منذ الصفحات الأولى بكشف حبِّها واشتهائها لوالدها المحامي. الوالدة متوفاة منذ سنتين. شقيقا البطلة متزوجان ويعيشان في حلب واللاذقية. هكذا، يتحوّل البيت إلى مسرحٍ ملائم لاستيهامات البطلة ورغباتها المعلنة والمكتومة. ثمة محاولات عديدة لاحتلال مكان الزوجة الراحلة. تنجح البطلة في تخفيف ذكراها لدى الأب. تزيل صورتها من الصالون وتضع صورة تجمعها هي مع الأب المُشتهى. الأب يُسايرها في بعض المواقف، لكنه لا يتورَّط في تصرفات خارج المقبول ثقافيّاً واجتماعيّاً.
اللحظة الأكثر جرأة تبدأ بدعوة البطلة لأبيها إلى حضور فيلم. ثم يتناولان العشاء في مطعم قريب. يشربان ويرقصان. يطلب منها أن تناديه باسمه الأول كي لا يبدوا كأبٍ وابنته. تثمل هي. يصلان إلى البيت. يقودها إلى غرفتها. يساعدها في خلع حذائها وفستانها. تغيب هي عن الوعي. تستيقظ في الصباح بثيابها الداخلية فقط. تصدق أن اتصالاً جسدياً حدث بينهما. القارئ لا يعرف ما يدور في ذهن الأب وخياله. النفوذ السردي الممنوح للابنة يجعل الأب أشبه بلعبة بين يديها. تصدِّق هي، ونصدِّق معها أحياناً، أنه يجاريها ويعيش استيهامات مماثلة. تترجم البطلة أيّ اهتمام أو دلال من قبله عاطفياً. الحب المحرَّم هنا مخلوط بمشاعر مختلفة ومتناقضة. حب من طرف واحد، لكنه كافٍ لإشعال «فضيحة» اجتماعية أو تحقيق سابقة روائية. في الحالتين، هناك مسعى لتحطيم التابو الديني والأخلاقي. لعلّ قوة الرواية موجودة هنا، لكنّ الرواية تفاجئنا بانعطافة قوية. بالمصادفة، تكتشف البطلة أنها مريضة بالقلب. تنقلب جرأة الرواية رأساً على عقب. تحتاج البطلة إلى عملية عاجلة. تسافر إلى ألمانيا بصحبة والدها الذي يُجبره المنعرج الجديد للرواية على التخلّي عن صفة الحبيب المشتهى. تنتهي الرواية في لحظة دخول البطلة إلى غرفة العمليات، فلا نعرف إن كانت نجت أو لحقت بوالدتها.

البطلة اللاهية والمجازِفة تنتمي إلى أجواء الستينيات

بطريقة ما، نشعر أن مرض البطلة أنقذ الرواية من البنية الخيطية التي كانت تتدفق بها. في المقابل، رغم كتابتها في لحظة مبكرة من عمر الرواية النسوية العربية، إلا أن الرواية لا تشكو من مشكلات عسيرة على صعيد حضور الشخصيات واللغة والصراع النفسي وطريقة إدارة الأحداث. ثمة رومانسية طاغية في السرد، لكنها مبررة إلى حدٍّ ما بالنظر إلى زمن كتابتها. الرواية تشبه أجواء الستينيات. البطلة اللاهية والمجازِفة هي منصة أمل جرّاح في مجاراة محاولات كتَّابٍ آخرين بادروا إلى ترك بصمة أو أثرٍ أو منجزٍ شخصي يُسجل بأسمائهم. كانت مرحلة إعلان الريادات وبراءات الاختراع الأدبية والفنية.
بهذا المعنى، تمثّل الرواية خَرْقاً تاريخياً نسجِّله اليوم ـــــ بمفعولٍ رجعي ـــــ باسم أمل جرّاح. هذا الانطباع يتعزز بكون العمل فاز بجائزة مجلة «الحسناء» للرواية سنة 1968، فيما فازت الراحلة سنية صالح في السنة نفسها بجائزة «الحسناء» للشعر، عن ديوانها «حبر الإعدام» (صدر عام 1970)، وسلوى صافي عن كتابها «حديقة الصخور» (صدر عام 1969) بجائزة القصة القصيرة. ويترسخ الانطباع أكثر حين نعلم أن أنسي الحاج كان يترأس تحرير «الحسناء» وقتذاك، بينما تألفّت لجنة التحكيم من: غادة السمان وجبرا إبراهيم جبرا ويوسف الخال...