مضى يوم الشعر وبقيت «صفحات عزيزة» ممتلئة «باللاشيء»، عليها بصمات شاب في عزّ كهولته. شاعر سلك طرقاً فرعية، وحفر في أمكنة غريبة، وها هو يعود بـ«بطاقة لشخصين». قراءة في مجموعة مسكونة بالفقد والغياب
حسين بن حمزة
«حين قتلوا الصديق استردُّوه. كذلك سيعيدونني إلى أهلي»، هكذا كتب عباس بيضون في ديوانه «نقد الألم» عن غياب عبد اللطيف سعد. وها هو في «بطاقة لشخصين» (دار الساقي) يكتب عن غياب بسّام حجار: «منذ توفي بسام وأنا لا أعرف كيف أصرِّف هذه المسألة». ثمة مرارةٌ شخصية في فقدان الأصدقاء، لكن بالنسبة إلى صاحب «خلاء هذا القدح»، الصداقة ليست مناسبة للرثاء فقط. إنّها موضوع شعري أولاً. الصداقة تعوم على سطح الجمل والاستعارات، بينما لا يكف الشاعر عن بحثه الشعري. نبرة الشاعر هي جِلدُه، ولن تتغير بسبب عاطفة ضاغطة أو حدثٍ دراماتيكي. مناسباتٌ كهذه تصير تحدّياً لهذه النبرة مع ما تتجنَّبه عادةً. يُقرّ بيضون بأنه كتب الصداقة من دون أن تكون موضوعاً فعلياً للقصيدة. «كتبتُ عن بسام، لكن الشعر في الداخل كان ينفذ إلى مطارح أخرى. بطريقة ما، كان هناك بحث عن إمكان كتابة نص يملك محوراً واحداً هو الصداقة من دون أن يتعطل الشعر الذي هو بالنسبة إليّ محاولة مستمرة لتسريب عناصر موضوعية أو غير شعرية إلى الكتابة».
في قصيدة «الوضوح»، نقرأ: «كان يجد بسهولة ما يريده/ لديه من الجمل قدر ما لديه من الأفكار». وفي قصيدة «نزهة»: «متظاهراً بالعجز/ لتُلهي أمراضكَ عن الاستمرار في العمل الفتاك/ لم تشأْ أن تبدِّد شيئاً في التجوال/ فالحياة ليست عمل السواح أو جامعي الطوابع». هناك إشاراتٌ وطبائع عديدة تخصُّ بسام حجار، لكن الصداقة هنا مأخوذة على محملٍ شعري يتطلَّب بحثاً مضنياً عن منافذ جديدة للتجربة. يقول بيضون: «إنّها ممارسة تشبه العمل على فنٍّ مفهومي. تلتقط فكرة أساسية وتتحرك حولها. بسام موجود كشخصية إشكالية مثل الشخصيات التي تجتذب الروائيين». نذكِّره بقصيدة «لا أحد في بيت السيكلوب» التي حوّل فيها انتحار ابن أخته إلى نصٍّ شعري قادرٍ على الحياة بصرف النظر عن سبب كتابته. يوافق على تشابه المسعى الشعري في الحالتين بهدف «كتابة نص بدون تداعٍ شعري».
الخروج من الرؤيا الكلية للعالم واللغة إلى «قراءة الأشلاء»
إلى جانب الشعر المتحصِّل من صداقة بسام حجار، يعود بيضون إلى فكرة تقليب هواجسه الشعرية على مرأى من القارئ، داعياً إياه إلى التجوال في كواليس قصيدته. في ديوانه السابق «الموت يأخذ مقاساتنا»، كشف بيضون جزءاً من فنِّه الشعري: «وضعتُ كثيراً من الشعر/ كثيراً من الفؤاد في القصيدة/ فصارت عرجاء». وها هو يكرِّر ذلك: «أيتها الصفحات العزيزة، لقد ملأتكِ باللاشيء الذي لم أصدِّق أنه يأسنُ وتصيرُ له رائحة».
التفكير بالشعر مناسبةٌ للقول إن شعر عباس بيضون يمنحنا مداخل ومفاتيح عديدة للكلام عن الكتابة نفسها. لا عن تجربته هو فقط. إنه الابن الأبرز لجيل الحداثة الثانية في الشعرية العربية. الجيل الذي اشتغل أفراده على تحويل بيانات الرواد إلى ممارسات شعرية تُقوَّض فيها الجماليات الآمنة، ويُستخلص فيها الشعر من مواد لا تحظى بشعرية جاهزة. مع بيضون وسركون بولص ووديع سعادة وبول شاوول وصلاح فائق ومؤيد الراوي، ثم كوكبة من شعراء نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، جرى تهشيم الأحجار الكبيرة للرواد. مع بيضون حصراً، تم الخروج من الرؤيا الكلية إلى العالم واللغة إلى «معاينة الشتات» و«قراءة الأشلاء» بحسب تعبير الناقدة خالدة سعيد في تقديمها لأعماله الكاملة.
خلفيةٌ كهذه لا ينبغي أن تغيب عن أذهاننا، ونحن نتلقى جديد الشاعر الذي حاز إعجابَ سابقيه ومناصرةَ لاحقيه. نادراً ما نال شاعرٌ إجماعاً مماثلاً.
هذا لا يعني أن بيضون لم ينقلب على أسلافه القريبين، أو لم ينكث بمعاييرهم الشعرية. أنجز الشاعر الجزء الأكبر من انقلاباته على مرأى منهم. سلك طريقاً فرعية. حفر في أمكنة أخرى. خلط الممكنات الشعرية العربية مع قراءات أجنبية. بيار جان جوف في البداية، ثم إليوت وريتسوس وريلكه. ماركسيته الفكرية والسياسية لم تكن بعيدة عن هذه المؤثرات. جملة عباس نفسها هي حصيلة كل هذا. جملة تستثمر أفضل ما في القديم، وتواكب أفضل المستجدَّات. جملة تستبطن مؤثرات متعددة، شعرية وغير شعرية، وتحولها إلى ممتلكاتٍ خاصة. لعل هذا يفسّر شباب هذه الجملة وحيويتها. إلى حد أن بعض تجارب التسعينيات وحتى تجارب بدايات الألفية الثالثة تتنظر الوجهة أو الاقتراح الذي يحمله جديد هذا الشاعر. يُفاجأ هؤلاء بأن الشاعر الأسنَّ منهم يتشاطر معهم اختبارات شعرية جديدة وطازجة. ليس ضرورياً أن يتبنّى هؤلاء هذه الوجهة طبعاً. يمكنهم مجاراته أو إدارة ظهورهم له. في الحالتين، سيشعرون بأنّ ما يكتبونه يجد سنداً قوياً، وأن في استطاعتهم نسيان ذلك، والانكباب على صناعة حساسياتهم وهوياتهم الخاصة. ألم يكتب أحد هؤلاء يوماً: «نحن هراطقةُ عباس بيضون»؟


كتابة داخل الكتابة

الكتابة عند عباس بيضون تتضمن تفكيراً بالكتابة نفسها. نتلذَّذ بقراءة منجزه الشعري، لكننا لا نستطيع أن نتفادى فكرة أنّ هذا الشعر مصحوبٌ بشرحٍ أو تفسيرٍ، مضمر أو معلن، لفنٍّ شعري شخصي أو وجهة نظر خاصة في الشعر.
صاحب «الوقت بجرعات كبيرة» مشغول دوماً بإنجاز الشعر وإنجاز فكرته عن الشعر في آنٍ واحد. يُدخلنا بيضون إلى مشغله الشعري. يُشركنا في أسئلته. يدعونا إلى معاينة حَيْرته. يُكثر من الكلام عن الشعر داخل قصيدته. نحس أننا نقرأ كتابة داخل الكتابة مثلما نقرأ مسرحاً داخل المسرح. لعلَّ جزءاً من حيوية هذا الشاعر مرتبط ببحثه المستمر عن مصادر ومكوِّنات ومذاقات ومجاهل معجمية وتخييلية غير مستعملة لقصيدته. نضج صاحب «مدافن زجاجية» واكتهلت قصيدته، لكنه لا يزال يحتفظ بنزق الشبان وحَيْراتهم وشكوكهم. إنه الشاعر الشاب في ريعان كهولته.