في مجموعته الشعريّة «ما وراء الصوت»، ينسج الكاتب الجنوب ـــ أفريقي «محادثة بدوية» مع صديقه الراحل، ومواطنه في جمهوريّة الشعر

حسن الشامي
ليس أمراً مألوفاً أن يسعى كاتب معروف إلى وضع لغته وأريحيّته داخل المدار الشعري والثقافي لكاتب آخر، ومعروف أيضاً. وقد يزداد الشعور بغرابة هذه التجربة، عندما نتفطّن إلى المسافة الشاسعة التي تفصل بين لغة المرتحل أو النازح الطوعي ولغة ـــــ أرض مرشحة لأن تكون، في مخيلة المرتحل، أكثر من فضاء للضيافة. هذا هو، في تقديرنا، الانطباع الأوّلي الذي يخامر قارئ المجموعة الشعرية للكاتب الجنوب ـــــ أفريقي برايتن برايتنباخ، الصادرة عن دار «أكت سود» (باريس) في عنوان بارز باللغتين الفرنسية والإنكليزية هو «ما وراء الصوت» (Outre voix). نقول باللغتين، لأنّ القصائد الـ12 التي تضمّها المجموعة كتبها برايتنباخ أولاً بالأفريقانية، وهي لغة خاصة منحدرة من الهولندية يستخدمها قسم كبير من البيض في أفريقيا الجنوبية. ومنها نقلت القصائد إلى الفرنسية، ثمّ أعاد كتابتها بالإنكليزية. ما يجده القارئ إذاً هو دزينة من القصائد مترجمة إلى الفرنسية وتشغل نصف الكتاب، فيما يحتوي النصف الثاني على القصائد ذاتها لكن بالإنكليزية. ويُفهم من هذا أننا أمام كتابة تتشوّق إلى التنقل والارتحال بين اللغات وتختبر هذا النوع من البداوة الحديثة.
من شأن العنوان الفرعي للمجموعة أن يبدّد الغموض الذي يلابس، لا بدّ، هوية نصوص تتطلّع إلى الإقامة في ما وراء الصوت، وما بين اللغات والثقافات. والعنوان هو «محادثة بدوية، أو ظاعنة إذا شئتم، مع محمود درويش». بل حتى يمكننا أن نعتمد في تعريب العنوان صفة الظعن وترجيحها، في هذا المقام، على صفة البداوة. ولا يعود هذا الترجيح إلى رغبة في التفاصح أو المبالغة في التدقيق، وإن كانت «البداوة» الحديثة قد أصبحت، في أدبيات شعرية ونثرية عديدة، تعبيراً سائراً عن مواطنية عالمية وإنسانية عريضة. ذلك أنّ الظعن، بحسب لسان العرب، هو التنقّل والارتحال طلباً للنجعة والماء والكلأ. وإذا حملنا العبارة على معناها المجازي والرمزي، قاربنا ما يقصده برايتنباخ ويصبو إليه. إنّه استئناف الصداقة الشعرية، والإنسانية الوجودية في معنى ما، مع الغائب الراحل. ولكن هل يمكن حقاً التحاور والتحادث مع الغائب؟ وكيف يكون ذلك، ما دام الحوار يسلك، في نهاية المطاف وفي ما يتعدّى سخاء التكريم، اتجاهاً واحداً؟ أليس الحديث عن مخاطبة حارّة أقرب إلى الصواب من «المحاورة»؟
يرجح في الظنّ أن هذا النوع من الأسئلة لم يغب عن بال برايتنباخ الغزير النتاج، شعراً ونثراً، وقد بات أحد رموز النضال ضدّ الظلم والقهر والاستغلال، وفي مقدّمها النضال ضد نظام التمييز العنصري (أبارتهايد) في أفريقيا الجنوبية. من المفيد أن نقرأ بتمعّنٍ الصفحتين الأخيرتين، والنثريتين بطبيعة الحال، اللتين وضعهما المؤلف، عارضاً فيهما باختصار حيثيات كتابته لقصائده المتحاورة مع شعر درويش، كما يقدّم مفاتيح لتوصيف عمله هذا. هو يذكر أنّ درويش كان أحد أصدقائه، تلقّى نبأ وفاته حين كان في جزيرة غوريه، وأنهما كانا قد التقيا قبل أسابيع في مدينة آرل في جنوب فرنسا حيث قرأ درويش للمرة الأخيرة بعضاً من نتاجه أمام جمهور كبير. وكانت قصائده مخترقة بحوار مع الموت. «لقد شرعت، عقب وفاته مباشرة، في كتابة هذه السلسلة من القصائد، كأنّها مقاطع من المحادثة التي كنت أواصلها معه».
حاشية شعريّة على متن شعريّ آخر، ونص ينفذ إلى آخر
ويخبرنا برايتنباخ أيضاً أنه بعد أسابيع على ابتداء «الشتاء الصغير» في أفريقيا الغربية، توجّه صوب الشمال، والقصائد التي وضعها تعكس هذه الرحلات. في الطريق، يضيف برايتنباخ، كان التأثر الانفعالي بأبيات محمود شيئاً منعشاً. «الترجمة، أي العبور من لغة إلى أخرى، هي أيضاً ضرب من الرحلة المحفوفة بالمخاطر». ذلك أنّ ثمّة خطراً كبيراً في القبض على جوهر الآخر. «أعتبر هذه المقاطع بمثابة تكريم. لكنها أيضاً محاولة لرفع الغطاء الملقى على هذا الوجه الذي بات صامتاً. كان محمود درويش غزير الإنتاج طوال حياته. وكان يمكننا أن نتحاور إلى ما لا نهاية. هذا «الكولاج» هو «تنويعات» متعددة على نتاجه؛ وهي مستقاة أحياناً من بعض أبياته الشعرية، وتقارب أحياناً أخرى إحدى قصائده على وجه التخصيص، إذ أروح ناسجاً صوتي في وسطها. الصور، والإيقاع والشكل إلى حدّ معين، تعود كلها له. أنا لا أعرف العربية، ما جعلني أقنع بترجمات تقريبية (لشعر درويش) بالإنكليزية والفرنسية. لقد سمعته يلقي شعره في مناسبات عدّة، وكنت دائماً أندهش بالأصوات والحركات».
هذه المخاطبة الشعرية، الظاعنة والدافئة، أطلقت العنان لتجربة لغوية أخرى تخصّ برايتنباخ. إذ إنّ النصّ الإنكليزي لقصائده انبثق من كتابته باللغة الأفريقانية المعروفة في أفريقيا الجنوبية. والهدف هو تسهيل الحوار بين اللغتين. ويختم برايتنباخ توضيحاته المكثفة بالقول إنّ الرحلة مستمرة والحوار سيتواصل بحثاً عن محمود درويش بين الكلمات. عبر هذا التوضيح لطبيعة مجموعته الشعرية، يقول برايتنباخ تقريباً كلّ شيء. ما يصفه الكاتب بالكولاج يمكن أن يكون حاشية شعرية على متن شعري آخر من دون أن ترتسم حدود واضحة بين الاثنين. فقد يكون المتن قصيدة درويشية بعينها يدلّ عليها برايتنباخ مباشرة أو تلميحاً. وقد يكون عبارةً استوقفته ودعته إلى مواكبتها والتأمل فيها ومحاورة مدلولاتها. والحصيلة هي عمل يتعدّى التعليق الشعري وتنويعاته.
إنها محاولة أدبية نبيلة، ليس لكتابة نصٍّ على نص فحسب، بل لنفاذ نص إلى نص آخر والإقامة فيه. وهي بطبيعة الحال إقامة موقتة، ما دام صاحبها عابر سبيل وحدود ولغات. والتوقف عند محاولة من هذا النوع لا يحتاج إلى مناسبة، كأن يحصل الشاعر على جائزة محمود درويش الدولية أو على جائزة تكريمية من دولة الإمارات العربية. المناسبة هذه قائمة في صدور المحاولة ونشرها.

مقتطفات *

من القصيدة الرقم 10
من أنا كي أتحدّث معك بهذه الطريقة؟/ فأنا لم أكن قطّ حصاةً صقلها اضطراب الموج/ بحيث أُظهر وجهك/ ولم أكن قصباً ثقبته الريح/ كي يصير ناياً/ أنا اللاعب المقامر/ أحياناً تكون رمية النرد موفّقة/ وأحياناً تتعثّر انظر/ أنا مثلك أو أنني ربما/ ظلّ أكثر هزالاً وهو ينبثق من البئر
{...}
أنا رمية نرد/ لكن، بين سعال الوحوش المفترسة وصراخ الفريسة/ قيض لي أن أرى مجازر عند الغروب
{...}
لا راية ترفرف فوق حياتي/ ولو لم تهبّ الريح/ لما كان لي قطّ أن أصير سنونوة، الريح/ هي لباس المسافر المبتهج/ شمال/ شرق/ غرب

من القصيدة 11
أقول: سأحفظ أحلامنا وكأنّها مرايا/ ذلك أننا رأينا وجه الذين/ سيرمون أطفالنا/ من نافذة هذا الفضاء الأخير/ فوق الأنقاض يقهقه قمر ساخر/ مثل امرأة مجنونة تحمل في يدها مغرفة مكسورة/ وهي تتملّى صورة وجهها وهو يتجعّد في البئر
{...}
سنموت هنا حيث الأرض المقفلة مجدّداً/ تلفظنا عبر آخر حلقٍ ضيق/ ممزّقي الأعضاء/ وتقول: التشرّد وسط المسارب الفارغة/ هو إعلان عن مباركة العدم/ مثل الشاعر الأعمى وهو يُنشد الحيتان/ ومثل تلالٍ برّاقةٍ تحت القمر/ سجّل: عربي/ سجّل: فلسطيني/ سجّل: أفريقاني/ سجّل: إنسان أيضاً

* من مجموعة برايتن برايتنباخ «ما وراء الصوت» (أكت سود/ باريس)
تعريب ح. ش.


الإرهابي الأبرص

يعد برايتن برايتنباخ في ذاكرة مواطنيه من أبرز المناضلين في وجه نظام الأبارتهايد. بعدما تزوّج من فيتناميّة، اضطر إلى مغادرة بلاده تحت وطأة القانون الذي كان يحظر الزيجات المختلطة. هكذا، استقر في باريس منذ السبعينيات، حيث أسس جمعيّة سريّة عملت على تنظيم المناصرين لمانديلا. نشاطٌ أوصله إلى السجن تسعة أعوام. سنوات نقرأها في كتابه «الاعترافات الحقيقية لإرهابي أبرص» (1983).