11 و12» أحدث أعمال المسرحي البريطاني/ الباريسي، عن نصّ للكاتب المالي أمادو همباتي با، مع الممثلَين الفلسطينيَّين مكرم خوري وخليفة ناطور. إنّها حكاية أرض عذراء اجتاحها العنف في ظلّ الاستعمار. ما زال المعلّم الثمانيني يرى الخشبة مختبراً للغات، وفضاءً للأسئلة
لندن ـــ محمد العطار
على خشبة «مسرح الباربيكان» العريق في لندن، قدم بيتر بروك (1925) أحدث عروضه «11 و12» الذي اقتبسته شريكته الإبداعية ماري هيلين استيان عن «روح التسامح: الحياة المُلهِمة لتيانو بوكار» للكاتب المالي أمادو همباتي با.
«11 و12» الذي جاءت عناصره السينوغرافية انعكاساً لبساطة قصته، وعبّرت عن غناها الروحي في آن، يحكي قصة خلاف أتباع الطريقة التيجانية الصوفيّة في إحدى مناطق مالي على عدد المرات التي ينبغي فيها تكرار الدعاء أثناء صلاتهم. بينما رأى بعضهم أن إحدى عشرة مرة هي الطريقة الأصل، يرى آخرون أن 12 مرة هي الطريقة الوحيدة لتكرار الدعاء في الصلاة. وما بدا أنه خلافُ بسيط لا يفسد للود قضية، سرعان ما تطوّر ليتحول إلى خلافٍ قبلي أشبه بالحرب الأهلية الطاحنة. لا تغفل الحكاية أنّ الخلاف لم يكن ليتطوّر لولا تدخل السلطات الفرنسية التي وجدت الفرصة سانحةً لدعم فئةٍ على حساب أخرى. هكذا، دعمت فريق الـ12 على حساب الفريق الآخر الذي يمثّل الشريف حمى الله (جسّده بتميز الممثل الفلسطيني خليفة ناطور) مرجعَه الروحي، لتتخذ منه السلطات الفرنسية عدواً مباشراً لها، قبل أن تعمد إلى عزله، ثم نفيه خارج البلاد ليموت وحيداً ومريضاً في باريس. من خلال ذكريات طفولة همباتي با في قريته الصغيرة النائمة بعيداً في غرب أفريقيا العذراء مطلع القرن العشرين، يأخذنا بروك في رحلة تكوّن وعي همباتي على يدي معلمه تيانو بوكار الذي كان ممن تتبعوا طريقة الـ12 في الصلاة (حضور آسر للمثل الفلسطيني الآخر مكرم خوري). تيانو الشيخ المتصوف الذي ألهم همباتي با ومن بعده بروك، يجسّد هنا فطرية المكان وعمق علاقته بالروحانيات البعيدة عن الانغلاق والتعصب. وكما يعلّم همباتي وأقرانه القرآن، فإنه أيضاً يعلمهم التسامح ونبذ العنف وحبّ المعرفة وطلبها حتى من الفرنسيين. وعندما يتحلق حوله تلامذته معجبين بقدرته الخارقة على معرفة أوقات غروب الشمس وشروقها، فإنه يبتسم لهم مظهراً ساعة جيبه قائلاً: «كان هناك من يجب أن تشكروه، فهو مخترع هذه الساعة».
أفريقيا البسيطة والأسطورية على خشبة مغطاة بسجاد أحمر وكثبان الرمال
تشتدّ وطأة الاقتتال بين الفريقين المتناحرين على مرأى من تيانو الذي نبذ العنف طوال حياته، فيقرر أن يزور الشريف حمى الله الذي لا يرضى بدوره عن العنف الدائر، ويصرّح بأنه لا خطأ في اتباع طريق الاثنتي عشرة. إلا أن تيانو كان قد اتخذ قراره، أي التحول إلى طريقة الشريف، وهو كان متيقناً أن قراره سيثير حنق أهله وقبيلته الذين يمثّلون غالبيةً مدعومةً من الفرنسيين. لقد أراد تيانو أن يثبت أنّه لا فرق بين الطريقتين، وبالتالي لا مبرر للاقتتال: «ليس لدي أي شيء ضد الرقم 12، فقل ما لديك أنت ضد الرقم 11»، هكذا يجيب تيانو زعيم قبيلته الذي يصرخ في وجهه غاضباً، قبل أن يأمر الجميع بمقاطعة زاويته. حتى إنّه يأمر تيانو بأن لا تطأ قدمه أرض المسجد، وألا يغادر زاويته حتى يعود إلى طريق الصواب. هكذا، يقضي تيانو أيامه الأخيرة وحيداً ومعزولاً، لكنه صابرٌ ومبتسمٌ أبداً.
على خشبةٍ شبه عارية، مغطاةٍ بسجادٍ أحمر بلون الدم القاني، وكثبانٍ من الرمل، يخلق لنا بروك أفريقيا همباي با البسيطة، الساحرة والأسطورية، بأجساد الممثلين الرشيقة والممشوقة وهم يجسدون شباب القرية المتحلقين حول معلمهم الحكيم تيانو بوكار، بمرافقة موسيقى الياباني توشي تسوشيتوري الشجية والمتقشفة تماماً كعناصر العرض البصرية الأخرى. المعلم الثمانيني الذي اختبر الحياة جيداً كما المسرح، يقدم هنا رحلة همباي با من الطفولة إلى الصبا والبلوغ... رحلة تعلم وإدراك، لكنها رحلة أفريقيا همباي با أيضاً، من روحانية فطرية لأرضٍ عذراء متسامحة ومنفتحة على معتقد الآخر، إلى اقتتال دامٍ في أرض تتعرف الآن إلى حكمة المستعمر الأوروبي.
في إحدى لحظات العرض الساحرة، يقول تيانو بوكار لتلميذه همباتي با، القلق بفعل أسئلة مؤرقة عن الله والحقيقة: «هناك حقيقتي، وهناك حقيقتك، وهناك الحقيقة....».
www.peterbrook.net


بعيداً عن الوعظ

يقدّم بيتر بروك أفريقيا همباتي با، فيتناوب جميع الممثلين ـ المتعددي الأصول والجنسيات كالعادة لدى صاحب «المهابهاراتا» ـ على أداء أدوار شخصيات القرية والأفرقاء المتقاتلين. هكذا، ننسى لون بشرتهم ونحن نراقبهم يشغلون الفضاء العاري بحركة دؤوبة... لكننا لا نغفل عن أنّهم يقومون بتلك اللعبة فقط حين يجسدون الشخصيات الأفريقية. إذ يختلف الأمر لدى تجسيد أدوار الضباط الفرنسيين. المعلم الثمانيني ما زال مسكوناً بهواجس المسرح كمختبر وتجربة حية تمزج الفني بالإنساني وتطرح الأسئلة. هنا، يبدو انحيازه أوضح إلى مقولات إنسانية أكثر بساطة وعمقاً، تنشد العدالة والتسامح في عالم بلغ ذروة الوحشيّة. لكنه بخبرته الطويلة وروحه الشابة، ينأى عن تقديم الأمثولة أو البقاء في أسر الحكاية المغلقة.