عشيّة انعقاد «مؤتمر الوسائل السمعيّة ـــــ البصريّة حول المتوسط»، ننشر وجهة نظر منظّمه، رئيس معهد الـ INA الفرنسي، عن آفاق التواصل بين دول «بحرنا المشترك»
إيمانويل هوغ*
في عالم تنشط فيه حركة التبادل بطريقة لم يشهد لها تاريخ البشرية مثيلاً، وتبرز أيضاً أشكال متعددة من التنافر بل الصراعات الجديدة، يبدو التقارب الضروري بين دول حوض المتوسط أمراً بديهياً. لن يكون هناك مستقبل لبلداننا وثقافاتنا ـــــ وهي وريثة تاريخ طويل مشترك وتراث ثقافي استثنائي ـــــ إلا ضمن حيز متوسطي مشترك قوي بوحدته وتنوعه. على هذا الدرب المليء بالوعود، تبدو المحطات المقبلة مهمّة للبنان. في حزيران (يونيو)، سيجتمع رؤساء الدول والحكومات في برشلونة، ضمن القمة الثانية لـ«الاتحاد من أجل منطقة البحر المتوسط»، وسيسبقها هذا العام أيضاً اجتماع وزراء الثقافة في هذه الدول. تُعبّر هذه السلسلة السعيدة من اللقاءات عن ضرورة حقيقيّة: كي نبني تحركاً مشتركاً وطموحاً في المتوسط، علينا أولاً استعادة حس التبادل والمشاركة في الرأي، الذي تعد الثقافة أداة التعبير عنه، ومحفّزه الرئيس. وهنا، تؤدّي وسائل الإعلام دوراً أساسياً.
انطلاقاً من هذه الرؤيا أيضاً، سيقام «المؤتمر الدائم للوسائل السمعيّة ــــــ البصريّة حول المتوسط» COPEAM في باريس، من 8 إلى 11 نيسان (أبريل) المقبل، برعاية رئيس الجمهورية الفرنسيّة. يندرج هذا الموعد الذي يجمع بين مهنيين من لبنان ودول المنطقة، في سياق مؤات لتدعيم التعاون بين هذه الدول. في الواقع، يواجه القطاع السمعي ـــــ البصري في دول المتوسط تطوّرات عدة: تعميم شبكة الإنترنت وتقنية التلفزيون الرقمي الأرضي، التطور المذهل في الاتصالات السلكية واللاسلكية، والخدمات الإعلامية التي تقدمها هذه الوسائل، بروز قنوات إعلامية بات لها إشعاع دولي. وفي مواجهة التحديات الجديدة، بات ضرورياً تحديد قواعد مشتركة كي يتسنّى للسوق المتوسطية الواعدة في مجال السمعيات والبصريات، أن تفي بكلّ وعودها.
إلى جانب تطوير البنية التحتية (الدخول على شبكة الإنترنت بسرعة عالية واستخدام الألياف البصرية)، هناك أمر ضروري آخر: إرساء أطر قانونية مشتركة تشجّع تداول الأعمال السمعيّة ـــــ البصريّة مع حمايتها من القرصنة. بل يتعيّن أن نتخطى مسألة صياغة الضوابط القانونية المشتركة، لإطلاق مبادرات طوعية كفيلة ببعث حياة جديدة في ثقافتنا المتوسطية التي هي ثمرة ميراث عتيق. وفي هذا السياق تندرج ثلاثة مشاريع ستُعلن خلال المؤتمر.
يتعلّق المشروع الأول بإنشاء «جامعة المتوسط للوسائل السمعيّة ـــــ البصريّة» التي تهدف إلى مدّ جسور في هذا القطاع بين أصحاب الاختصاص والطلاب الآتين من دول المتوسط كي يتكيّفوا مع التطورات السريعة في هذا المجال، وأيضاً يتعلّموا كيفية مواجهة التحديات وإثراء خبراتهم في مجال الوسائل السمعيّة ـــــ البصريّة. أما المشروع الثاني الذي يطاول شريحة أكبر من الجمهور، فيتعلق بإنشاء موقع جديد على الإنترنت، بعنوان MeD MeM، يهدف إلى تعزيز فرص معرفة الآخر، ويتضمن أرشيفاً سمعياً وبصرياً لجميع القنوات التلفزيونية الرسمية في المنطقة. وهو سيكون أشبه بـ«مكتبة الاسكندرية» في صيغة جديدة وحديثة ذات ذاكرة مفتوحة ومتقاسمة لكن على الإنترنت. هكذا سيكون لبنان محطاً للأنظار عبر صور لمدينة جبيل (بيبلوس) مثلاً ـــــ إحدى أقدم المدن في تاريخ البشرية ـــــ أو للتراث المعماري اللبناني المهدّد بالزوال، أو للمسرح والسينما في لبنان مع الكاتب الياس خوري وسينمائيين عديدين أمثال أولغا نقاش أو غابي بسترس.

مشروع إطلاق قناة ثقافية متوسّطيّة متعددة اللغات
يتعلق المشروع الثالث ـــــ الأكثر طموحاً ربما ـــــ بإنشاء قناة تلفزيونية ثقافية دولية ومتعددة اللغات. هنا، يمكننا أن نحقّق على مستوى منطقة البحر المتوسط، ما أنجزته قناة arte في مجال التعاون الفرنسي ـــــ الألماني والأوروبي. ومن شأن القناة الجديدة التي ستُغذَّى بإسهامات من مختلف دول المنطقة، أن تحوِّل الحيز الأورو ـــــ متوسطي إلى حقيقة ملموسة. ألن تكون القناة وسيلةً ممتازة لإبعاد تلك اللعنة القديمة التي حلّت بأهل بابل حين «جعل الله أهل الأرض، كلّ يتحدث بلسان مختلف عن الآخر» بعدما كانوا «شعباً واحداً»؟
قد يقول بعضهم إنّ هذه المشاريع لا تحتلّ الأولوية، ففي وقت يعاني فيه العالم أزمة عامة، يمكن الثقافة أن تنتظر. لكننا نرى، عكس ذلك، أنّ الثقافة كفيلة بأن تدفعنا قدماً بهدف تحويل «الاتحاد من أجل منطقة البحر المتوسط» إلى حقيقة لكل شعوب المنطقة. «لو أتيحت لي الفرصة مجدداً، لبدأت بالثقافة»، نعلم أن تلك العبارة المنسوبة إلى جان مونيه (رجل دولة فرنسي يُعدّ أحد آباء الفكرة الأوروبيّة ـــــ ملاحظة من التحرير) هي من نسج الخيال. لكنْ هل هذا سبب كافٍ كي لا نأخذها على محمل الجد؟
* رئيس «المعهد الوطني الفرنسي
للوسائل السمعيّة ـــــ البصريّة» INA،
رئيس «المؤتمر الدائم للوسائل السمعيّة ـــــ البصريّة حول المتوسط»