strong>أنطوان شلحت* ولد الكاتب الإسرائيلي «الأكثر شهرةً ومكانةً» عاموس عوز في القدس عام 1939، باسم عاموس كلوزنر، ابناً لفانيا ويهودا ـــــ آرييه كلوزنر، اللذين كانا ينتميان إلى صفوف «الصهيونية التنقيحية» بزعامة زئيف جابوتينسكي. ووفقاً لما كتبه في سيرته الذاتية الروائية «قصة عن الحب والظلام»، فإنّه في الـ15 من عمره، «بعد انقضاء عامين على موت والدتي، أقدمت على قتل والدي وعلى قتل القدس كلها، وغيّرت اسم عائلتي، ويمّمت بمفردي شطر «كيبوتس حولده» كي أعيش هناك فوق الأنقاض». ويؤكد في سياق لاحق، أنّه قتل والده بمجرّد تغيير اسم عائلته.
كان هذا الانتقال بمثابة «نقلة» فكرية من صهيونية جابوتينسكي، التي رفعت لواء «إعادة المجد التليد إلى شعب إسرائيل في وطنه التاريخي، ما بين البحر والنهر، وإقامة الهيكل الثالث في تلك الرقعة الجغرافية» إلى صهيونية دافيد بن غوريون (حركة العمل) التي والفت بين الأوضاع الميدانية والظروف الموضوعية في فلسطين من جهة، والغاية الأيديولوجية من جهة أخرى. ومهّدت لإقامة الكيان الإسرائيلي بواسطة احتلال الأرض واحتلال العمل، بادئ ذي بدء.
منذ بداية الستينيات من القرن المنصرم، وتحديداً إثر حرب حزيران (يونيو) 1967، يُعدّ عوز أحد الوجوه البارزة في ما يسمّى «حركات السلام الإسرائيلية» التي ترفع لواء تقليص رقعة الاحتلال الصهيوني في فلسطين، في مقدّمها حركة «السلام الآن» (تأسست في عام 1977).
وفي عام 2003، كان عوز من بين المبادرين إلى «وثيقة جنيف». يومها، نشر في صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيليّة مقالاً طويلاً، مما جاء فيه: «قلتُ لياسر عبد ربه وبعض رفاقه: علينا أن نقيم ذات يوم نصباً تذكارياً مشتركاً للحماقة الفظيعة، حماقتكم وحماقتنا. ألم يكن في وسعكم أن تصبحوا شعباً حُراً قبل خمسة وخمسين عاماً وقبل خمس أو ستّ حروب وقبل العديد من القتلى ـــــ قتلاكم وقتلانا ـــــ لو وقَّعتم على وثيقة مماثلة عام 1948؟ أما نحن الإسرائيليين، فكان في وسعنا أن نحيا آمنين بسلام لو أننا عرضنا على الفلسطينيين عام 1967 ما تقترحه هذه الوثيقة الآن، ولو لم تتملكنا ثمالة المنتصر المغرور بعد احتلالات حرب الأيام الستة». وفي عام 2008، كان عوز في عداد المؤسسين لـ«حركة ميرتس الجديدة»، معترفًا بأنّ حزبه السابق (العمل) «أنهى دوره التاريخي».
إضافة إلى أعماله الأدبية، نشر الكاتب الكثير من المقالات في الشأن السياسي العام في وسائل الإعلام الإسرائيلية والفلسطينية. وفي هذه المقالات كلها، ظلّ يجاهر بصهيونيته «العمّالية» وتعارضه الشرس مع «اليسار المناهض للصهيونية». أما الحرب الإسرائيلية على غزة، فأعلن عوز تأييده لها في البداية، ثم دعا إلى إيقافها بعدما «لُقّن الفلسطينيون درساً»، مبدياً تحفّظه على بعض ممارسات إسرائيل خلالها. ومما كتبه في هذا الشأن: «لن تربح إسرائيل شيئاً من استمرار الهجمات على غزّة. فسكّان القطاع لن ينتفضوا على «حماس»، ولن تقوم في غزّة سلطة صديقة لإسرائيل، كما أنّه من شأن عملية عسكرية برية أن تؤدي إلى التورط والغرق في المستنقع الغزاوي الذي يعدّ أسوأ كثيراً من المستنقع اللبناني».
في إحدى مداخلاته عن «دور الكاتب في المجتمع»، قال إنّه ينبغي للكاتب «العمل لمصلحة الآخرين، وعدم غضّ الطرف عنهم. إذا ما صادف حريقاً، لا بُدّ من أن يحاول إطفاءه. وإذا لم يكن في حوزته دلو ماء، يمكنه استعمال كأس. وإذا لم يتعثر على كأس، يمكنه استعمال ملعقة كبيرة. وفي حال عدم توافر مثل هذه الملعقة في متناول يده، يمكنه استعمال ملعقة صغيرة».
غير أن معاينة سريعة لأدب عاموس عوز ـــــ بما في ذلك سيرته الروائية ـــــ سرعان ما تشي بأنّ الغاية الأهم المضمرة لعملية إطفاء الحرائق هي غاية متمحورة حول الذات، وفحواها تجميل الكينونة الإسرائيلية، ضمن وجهة «تأخذ في اعتبارها الحاضر أساساً، لا الماضي التاريخي فقط» مثلما قال. بكلمات أخرى، فإنّ هذا الكاتب الإسرائيلي يبدو الأكثر إخلاصاً لـ«اليوتوبيا الصهيونية»، وفق ما هجس بها مؤسِّس هذه الحركة تيودور هرتزل في أواخر القرن التاسع عشر، من خلال تجاهل وجود الآخر، أي الشعب الفلسطيني، وتجاهل حقوقه فيما بعد. وبذلك، فإنه يواصل تقاليد أسلافه من «أدعياء السلام» الذين سبق أن استأنفوا هذه «اليوتوبيا» من موقع الحماسة لها، لا من موقع البديل الراديكالي.
عند هذا الحد، تجدر استعادة ما قاله أكثر من باحث في تاريخ الصهيونية، من منظور اجتماعي ـــــ ثقافي، بشأن انعدام بديل راديكالي أو ثوري في إسرائيل لخطاب استعمار فلسطين، في احتمالاته القصوى. ولعل ما ينبغي الالتفات إليه، أكثر من سواه، أن النقاش في السمات الأساسية لليوتوبيا الصهيونية، جرى منذ البداية بين فريقين غير متكافئين: الفريق الأول ضمّ أولئك الذين شرعوا، على هدى من أفكار هرتزل بشأن عملية الاستعمار في فلسطين، اعتماداً على الإمبراطورية القائمة وقتئذٍ وصلاتهم بها، في تحقيق أهدافهم في أقصر فترة ممكنة. ورغم وجود اختلافات بين الصهيونية اليمينية واليسارية بشأن الأولويات والوسائل، إلا إنهما ألّفتا جزءاً من هذا الفريق الأول، وكانتا على اتفاق بشأن العقائد الأساسية للصهيونية السياسية. أما الفريق الثاني، فضمَّ طاقماً متنافراً من الليبراليين والاشتراكيين والشيوعيين الذين وجدوا طريقهم إلى فلسطين بسبب ما يسمَّى «العداء للسامية» في أوروبا، لا بسبب العاطفة الصهيونية المشبوبة.
ويؤكد الباحث والأستاذ الجامعي الإسرائيلي حاييم بريشيت، في سياق دراسته «صورة الذات والآخر في الصهيونية ـــــ فلسطين وإسرائيل في الأدب العبري الحديث» (ظهرت ترجمتها العربية في كتاب «هوية الآخر» من إعداد الكاتب والباحث الفلسطيني حسن خضر، 1995)، أن الصراع بين الفريقين المذكورين لم يكن صراعاً على الاتجاه بين السائد والبديل. ذلك أنه كان على البديل بالضرورة أن يوجد خارج الصهيونية، وألا يقدّم معارضة لها فحسب بل برنامجاً بديلاً أيضاً. لكنّ ذلك البديل لم يوجد داخل الطائفة اليهودية في فلسطين (الييشوف). ولم يوجد على الأقل كجماعة تحظى بأدنى نفوذ سياسي وثقافي حقيقيّين. ولذلك، جرت المناظرة، في أقصى حدودها، بين أشكال عدوانية صهيونية مهيمنة وفريق من النقاد، الذين بدلاً من النأي بأنفسهم عن الاتجاه الصهيوني ومحاربته على طول الخط، كانوا إصلاحيين ولم يكونوا راديكاليّين أو ثوريين. وقد أُطلقت على نقد من هذا النوع، تسمية «النقد التجميلي»، لأن خلافاته تركّزت على الطرق والوسائل لا على الغايات.
وثمة عرض واضح وصريح جداً للعلاقة غير المتضادة بين الاتجاه المهيمن ونقّاده في كتاب عاموس عوز «في ضوء السماء الساطعة الزرقة» (1977)، الذي راح في أحد مقالاته يشرح كيفية قيام شراكة بينه وبين دعاة «أرض إسرائيل الكبرى»، وخصوصاً «في العداء لأولئك الذين يترقبون الجهة التي ستهبّ نحوها الريح». ويرى بريشيت أن فعلة عوز هذه تعبّر عن وضع فريد حقاً لكل شخص يريد الإيهام بأنه حركي على جبهة اليسار. زد على ذلك أنّه بالنسبة إلى عوز وآخرين من أمثاله في الجماعات اليسارية الصهيونية (في الطيف الذي يبدأ من حزب «العمل» حتى حركة «السلام الآن»)، تبدو المشاعر التي تربطهم باليمين اليهودي المتطرف أقوى من أي ميول إيجابية لديهم تجاه الفلسطينيين. وهذا الإحساس بالانتماء لا إلى اليسار، بل إلى تقاليد خلفتها قوى رجعية يسيطر عليها الآن اليمين المتطرف، قد يفسِّر كل تلك الصوَر التي ينتجونها عن فلسطين والفلسطينيين.

الصهيونية واحدة، بيمينها ويسارها، رغم بعض الاختلافات على الأولويات والوسائل

كذلك فإن هذه العنصرية الكامنة، هي التي تفسّر عجز كفاح الإصلاحيين التجميليين (رغم أنه الأكثر مدعاة للتعاطف والقبول في منظومة قمعية)، عن تقديم أي خيار حقيقي أو مقاومة ثابتة للفكر المهيمن. إن مثل هذه السيرورة ليست مستمرة إلى يومنا هذا فحسب، بل راكمت ولا تنفك تراكم المزيد من «نقاط القوة» في الآونة الأخيرة، بحيث يمكن ترجمة المعادلات السالفة إلى «حقائق سياسية كاملة» على الأرض.
ولعل هذا ما يفسر أيضاً أن القلق المنثور بتورية في بعض نماذج الأدب الإسرائيلي، المجاهر بمشاعر الكمد جرّاء فقدان «اليوتوبيا الصهيونية»، وجرّاء الموقف من الإنسان العربي، لم يتجاوز سقف الافتراض بـ«وجود حلم صاف وبريء أصبح بطريقة ما ملطّخاً». ولذا لا يلقى اللوم، عادة، على ذلك الحلم، بل على طريقة تحقيقه «التي لم تكن في مستوى الجنة الموعودة». بينما الحقيقة البسيطة تقول إن ذلك الحلم ولد ملطّخاً، لأنّ هناك صدعاً مميتاً في صميم تكوينه... وهذا الصدع قام ويقوم على «إنكار الآخر»، إذا شئنا استعمال المصطلحات الحداثية و... المهذّبة!
* كاتب وناقد فلسطيني من عكا