سأعود مراهقاً» هو عنوان معرض جديد للفنّان الشاب المقيم في باريس، افتتح أمس في «غاليري أيام» ــ بيروت. رغم أفقها العالمي، وتأثّرها بمرجعيّات عدّة، وابتعادها عن المحترف السوري الراهن، تبقى لوحته محلّية و... مقيمة في الماضي السعيد
حازم سليمان
الحنين شجرة خالد تكريتي المفضّلة. ثمارها أمهات وأخوات ولحظات حميمة نعيشها باستهتار. يستعيدها ليجرّب مذاقها بوعي آخر. أزمنة مُفتقدة تعود على شكل لوحات شخصية أقرب إلى صفحات من دفتر مذكرات وألبوم صور... وعوالم تسبح في فضاء بصري حكائي بأسلوب غرافيكي قوي وتستعيد ماضياً قوامه المحبة والدفء العائليّان. لكن هل يحمل الناس كلّهم القدر نفسه من الحبّ لماضيهم؟
قدم الفنان العام الماضي معرضاً دمشقياً عن طفولته في بيروت. وها هو يقدّم معرضه البيروتي في «غاليري أيام» عن مراهقته في دمشق بعنوان «سأعود مراهقاً». من خلال 13 لوحة، يواصل تكريتي اخبتاراته البصرية التي بدأت منذ التسعينيات لينجز مشروعاً بنكهة مختلفة. تجارب تبدو غريبة عن المحترف التشكيلي السوري الراهن، لكنها في العمق محلّية وإنسانية رغم الأفق العالمي الذي تسبح فيه.
لوحة تكريتي خليط من مرجعيات وتجارب شخصية. تبدو للناظر بسيطة وطفولية، لكن التمعن فيها سيحيلنا على اشتغالات وحرفية عالية في بناء مشهد بصري ذكي، تسكنه حركة دائمة وانفعالات وحيوية في اللون. وإن كانت لوحته لا تخفي تأثراتها ـــــ تعبيرية وواقعية مضيئة، فنّ البوب، السطوح الهندسية، ملمس صيني، آندي وارهول، ألكس كاتز ـــــ إلا أننا نجد أنفسنا في النهاية أمام أعمال لا تدين بالولاء التام لأيّ من تلك المرجعيات. ثمة ملمح خاص يضبط اللعبة، ينتشلها من الاستلاب أو الخضوع لنهج من دون آخر. لذا تحلّق اللوحة في فضاء من الانطباعات والرغبات، وتحمل قدراً من اللامبالاة بقواعد وبديهيات بصرية، وتسجّل خروجاً مدوّياً عن توليفات بصرية شعرية تسكن تجارب كثيرة في اللوحة السورية الجديدة. الولاء في أعمال تكريتي هو للتجربة الشخصية. ثمة محاولة واضحة لاستعادة زمن ضائع مُفتقد أو مأمول. رصد لتفاصيل حياة غنية بارتحالات وتحولات جغرافية وثقافية واجتماعية عاشها بين بيروت ودمشق ونيويورك وباريس.
هذا الفنّان السوري يُتقن فن الغواية البصرية، ويرسم بحثاً عن الزمن الضائع
تكريتي يُتقن فن الغواية البصرية. يصعب على متلقي لوحاته ألا يعلق في التفاصيل، وألا تأسره مهارات إبراز الموضوع وضبط مفرداته. هذه الخاصية تمنح أعماله طابعها المبهج والمفعم بالخيال والأناقة. نتوقّف مليّاً عند الصلابة المتأتية من فردية اللون، وامتداده وفق بنائية هندسية أفقية وعمودية، إلا أن كسر هذه الصلابة بخطوط ناعمة يؤكد علاقة العين ببؤرة الموضوع، وتنسج تماسكاً في اللوحة ذات المفردات المتنوعة، وإحساساً درامياً في الأعمال المتسلسة ذات البعد الحكائي كما في لوحة«النزهة» التي تأخذنا في قصة حب تبدأ في المراهقة وتحولاتها عبر الزمن.
تبدو لوحة تكريتي حيادية ومترفة، أناسها يعيشون في أمكنة مترفعة بملابس أنيقة. لا مكان للتصادم مع الواقع أو الاشتباك معه، ولا رائحة للأيديولوجيا، بل لعطور تنبعث من عشاق على دراجات هوائية، ونزهات في أفق الحرية. لكن هل تكفي الايديولوجيا ومشتقاتها لإنجاز لوحة جميلة؟ الجواب يأتي واضحاً في تجارب تكريتي التي تحمل ـــــ وإن كانت عالقة في أجواء مخملية ـــــ دعوة صارخة إلى الحب والعيش والتصالح مع الذات والعواطف والرغبات.
تجارب تكريتي الأخيرة تؤكد حضوره كفنان متفرد، وصاحب مزاج بصري خاص غير تقليدي، تجارب أكريليك تتسم بجاذبية تعبيرية وحساسية لونية ودقة في التنفيذ. العاطفة والتعاطف يجوهران المعنى، ويمنحانه القدرة على تمرير جملة من العلامات والدلالات اللونية والتراكيب الخاصة والنظيفة، ويدفعانه إلى إنجاز لوحة لا تنظر إلى الوراء بالمعنى التقني والموضوعي... بل تصير مشروعاً قادراً على إعادة إحياء الكثير من اللحظات العالقة في النفس، ومحرضاً للمتلقي على قبول اقتراحات جمالية رومانسية غير مألوفة في الراهن التشكيلي، وخصوصاً بين أبناء جيله.
لوحاته الجديدة («أوتو ستوب»، «النزهة»، «لصوص النجوم»...) التي يتضمنها المعرض هي اقتراحات للعيش، عودة إلى مدنيّة المدينة بأفقها الاجتماعي والثقافي الواسع، وتحرّر من أنماط اتسمت بها اللوحة الأكاديمية لصالح ثقافة بصرية جديدة تختلط فيها المشهدية الواقعية والذكاء الإعلاني وتسطيح الشكل، والإدراك العميق للدور الذي تؤدّيه الصورة في حياتنا اليومية.
لوحة تكريتي اجتماعية بامتياز، واقتراح جمالي وتحريضي لحياة فقدت مرحها، نساء موشحات بألوان مشرقة، قامات ممشوقة، وملامح وسيمة، وأصابع تُمسك بلحظتها الراهنة ولسان حالها يقول: لم تتغير النجوم ولا السماء ولا ملمس العشب. لماذا لم تعد تخطر على بالنا تلك النزهات الهادئة، والكثير الكثير من القبلات المسروقة؟

حتى 26 أيار (مايو) المقبل ـــــ «غاليري أيام» (الزيتونة/ بيروت) ـــــ للاستعلام: 01/374450


حياة من الترحال

«لوحتي تمثل مذكّراتي، ومشاهد من حياتي ملخصة فيها. البطلات والأبطال مأخوذون من عائلتي وأصدقائي، والمشاهد مختبرة أو مرغوبة»، هكذا يلخّص خالد تكريتي تجربته.
التشكيلي السوري ولد في بيروت عام 1964، حيث أمضى طفولته المبكرة... لاحقاً، درس الهندسة المعماريّة والتصميم في دمشق. عمل في المديريّة العامة للآثار والمتاحف في سوريا، وذلك قبل أن يصبح أحد أكثر الفنانين المعاصرين إثارةً في الشرق الأوسط.
انطلق في مسيرته الفنية منذ مطلع التسعينيات في دمشق، ثمّ سافر إلى نيويورك عام 1995 حيث مكث عامين وهناك تشرّب الاتجاهات العالميّة، ليعود إلى سوريا ثم يستقرّ في باريس منذ عام 2006.
عُرضت لوحاته في معارض فرديّة وجماعيّة في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، وأوروبا والولايات المتحدة...