في «بيروت: أيقونات غياب» تستحضر الفنّانة محطات من مشروعها في رصد الخصوصيّة الزائلة للمدينة. محطّات بصريّة توثّق لصناعة هدم الذات اللبنانيّة

سناء الخوري
«هذا ليس غليوناً»: الجملة التي خطّها ماغريت فوق لوحته الشهيرة، ذهبت مثلاً يلجأ إليه مصمّمو الإعلانات كما النقاد ومنظّرو علم الجمال، وبعضهم يتخذها أيقونة فكريّة. رسم التشكيلي البلجيكي غليونه البني عام 1966 وأرسله إلى ميشال فوكو في البريد. وإذا بالرسمة تلهم الفيلسوف الفرنسي لإنجاز دراسة خاصّة، حملت أيضاً عنوان «هذا ليس غليوناً» (1973)، يفنّد فيها فوكو مبادئ خيانة الصورة وعلاقة الأيقونة بالمكان والأفكار. تتردّد «هذا ليس غليوناً» كلازمة ثابتة في رأسنا، ونحن نتنقّل بين صور هدى قساطلي الفوتوغرافيّة المعروضة على جدارن «قبو كنيسة القديس يوسف» في بيروت.
هذا ليس بيتاً بيروتياً قديماً، وتلك ليست قناطر، وهذه ليست شبابيك ولا أبواباً، وهذه ليست حديقة... كلّها بقايا مدينة آخذة في الامّحاء والتلاشي. إنّها لحظات مقطوفة من ذاكرة عاصمة، أصبح الجيل الحالي على قطيعة تامة معها. إنّها «أيقونات غياب» جمعتها هدى قساطلي خلال مسيرة عقدين من الزمن. أعمالها الأربعون المعروضة هنا تحت عنوان Beyrouth, l'iconographie d'une absence جزء بسيط من مشروعها الأثير في التوثيق لخصوصيّة العاصمة قبل أن يجتاحها الإعمار. تفتح لنا قساطلي الباب على إرث عريق من البيوت ذات نمط القناطر الثلاثيّة. تلك البيوت العتيقة، بشبابيكها المزخرفة وبلاطها الغامق، أصبحت أثراً بعد عين. «ثمانون في المئة من البيوت التي صوّرتها هدمت الآن»، تسرّ إلينا قساطلي. في لقطات مقرّبة للجدران، نرى كيف بدأ طلاؤها يتآكل، هذه كلّها شذرات من عمليّة تصفية المدينة (Ubricide). تصوّر قساطلي الأبينة الإسمنتيّة، في لقطة بانوراميّة لبيروت الحاليّة من الأعلى: جدار من الأبنية الباهتة لا منفذ فيه حتّى لنسمة هواء تمرّ. انطلقت قساطلي في رحلتها الأنثروبولوجيّة من خوف سكنها لسنوات: خسارة الطابع المديني لبيروت، والخصوصيّة التي تجعل من المساحة المدينية فضاءً مشتركاً لكلّ أبنائها. «عملي تحيّة إلى تلك الخصوصيّة المفقودة، لا مجرّد حنين إلى الماضي»، تقول قساطلي. «ألم يقصِ مشروع إعادة الإعمار أهالي تلك البيوت العتيقة. ألم يحوّل قلب العاصمة إلى فضاء تحتكره طبقة معيّنة؟» تسأل. الإجابة البديهيّة تجدها في صورة لبائع أزهار يفرش بضاعته في فيء أحد البيوت القديمة. بالطبع، هذا مشهد يستحيل أن نراه اليوم فوق بلاط «الصيفي فيلادج»!
في الكتاب الذي يجمع صور المعرض ويحمل عنوانه، تكتب قساطلي ومعها سنا سلهب، نصاً مرجعياً عن «المدينة التي تكبر وتنتهي بالتهام الجميع». في رأيهما، نجحت الحروب المتتالية في القضاء على طابع بيروت الكوسموبوليتي، وجاء الإعمار السطحي ليحوّلها مدينةً ذات طابع عنيف وغير إنساني، مدينة تكره الغرباء والفقراء، ولا تعرف معنى المساحات العامّة. ها هي «المدينة الجديدة تنكر حربها وماضيها الثقيل، وعنفها المتواصل »، لتصبح مدينة للزوّار ورجال الأعمال... وتضيق بأبنائها.
تجمعات الأبنية الجديدة كما صاغتها مخططات الإعمار، لا يمكن أن تنتج نسيجاً مدينياً تأسيسياً، يقول لنا المعرض. صور البيوتات القديمة الزائلة، هي رصد «أيقونوغرافي» لانقراض مدينة ونمط عيش، ومشروع قساطلي بهذا المعنى توثيق لصناعة هدم الذات اللبنانيّة بامتياز.

حتّى 4 نيسان (أبريل) ـــــ قبو «كنيسة القديس يوسف» (مونو/ بيروت). للاستعلام: 01/421814


حجارة... وقناطر

درست هدى قساطلي الأنثروبولوجيا قبل أن تتجه إلى التصوير. منذ نهاية الحرب، بدأت المصوّرة توثيقها لموت البيوت القديمة في بيروت. امتدّ مشروعها على أكثر من 20 عاماً. بين الباشورة وميناء الحصن ووادي أبو جميل وشارع عبد الوهاب، التقطت صوراً فوتوغرافيّة جمعتها في مجلدات أبرزها De Pierres et de Couleurs (الليالي ــ 1998) الذي قدّم له الراحل سمير قصير.