عام على غياب الرجل الهادئ جداً

أنتج بخصوبة، وأدمن الوحدة المضمّخة بالألم والوحشة واللاطمأنينة. سلك مع آخرين من جيله دروباً وَعِرة، فصنعوا الحداثة الثانية في الشعر العربي. غداً تحلّ الذكرى الأولى لرحيل صاحب «مهن القسوة» سليل القضايا والصراخ والنبوّة والتمرد والإحباط

حسين بن حمزة
«منذ توفي بسّام وأنا لا أعرف كيف أصرِّف هذه المسألة». هكذا كتب عباس بيضون في مطلع قصيدة من ديوانه الأخير «بطاقة لشخصين». لعل هذه الجملة هي لسان حال كثيرين في الذكرى الأولى لرحيل هذا الشاعر اللبناني المتفرّد. تهجمُ علينا ذكرى بسام حجار (1955 ــــ 2009) بينما لا يزال غيابه طرياً ومربكاً، ولا نجد وصفةً صالحةً لتدبُّر افتقادنا له. لم يعش الشاعر بيننا كثيراً. أصدقاؤه المقرَّبون اكتفوا بصداقته العميقة والقليلة الكلام. كان يشبه شعره المكتوب بمفردات ضئيلة. كان الشعر ترجمةً شبه حرفية لحياة آثر صاحبها أن تشغل أقل المساحات. حياةٌ مصحوبة بآلام ومشقات كثيرة، وتتطلّب «مهارات مرهقة للمكوث»، كما كتب هو في ديوان «مهن القسوة» (1993). لم تكن صداقة الشاعر تفرض حضوره الجسدي العادي على أحد. وحتى حين كان يحدث ذلك، بسبب العمل أو المصادفات الموضوعية والاضطرارية، كان صاحب «مجرد تعب» (1993) يفضّل تسييج نفسه بغلالة عازلة من الصمت. صمت يجعله حميماً ومحمياً من الفضول في آن. الذين قُيّض لهم أن يتشاركوا معه المكتب نفسه، أو الجريدة نفسها، يعرفون أن هذا التشارك كان يحصل بأقلّ ما يمكن من الكلمات. الصمت غالباً ما كان يتكفّل بتربية صداقات الشاعر الذي اعتاد مغادرة بيروت في نهاية عمله اليومي، عائداً إلى صيدا.
قصائده ذات النبرة الخافتة، وحياته المليئة بالتجنّبات. الصداقات التي انخلقت بسبب الشعر والكتابة لا بسبب الحياة الاجتماعية... الآن نستعيد كل هذه الصفات، وغيرها، كعلامات وإشارات على «شعرية» إضافية عشّشت في حياة الشاعر ونصوصه.
أحبَّ بسام حجار الحياة على طريقته، لكنه اعتاد، مرغماً أو طائعاً، على صداقة الموت والغياب. وهو ما بدا في رثائه المتكرر لوالده وأخته. أهداهما أعمالاً عدّة، قبل أن يكرِّس لهما قصائد وكتباً كاملة. قرّاؤه وأصدقاؤه كانوا شهوداً على فقداناته الشخصية، لكنّهم كانوا شهوداً أيضاً على وحدة شاسعة تتراءى على امتداد مجموعاته الشعرية المتتالية. الوحدة هنا محاولة لتفادي «مشقة العيش»، كما كان يطيب له أن يصفها. الوحدة الممزوجة بالألم والوحشة واللاطمأنينة... كل ذلك كان من الأسباب الإضافية المقدَّمة لنا كي نصدِّق أن ميله إلى الغياب سرعان ما سيُستكمل بغيابه الحقيقي. كان ذلك شهادة رسمية وموثَّقة على حياةٍ استمرت بقوة الاحتضار البطيء. الشاعر الذي شغف بالعزلة والانزواء حصل على عزلته الكاملة وانزوائه الأبدي.
لا يخذلنا شعر بسام حجار في العثور على إشارات وعلامات تقود إلى حياته وأفكاره، لكن هذا الشعر قال أشياء أخرى أيضاً. نقرأه ونحسُّ أننا فقدنا رافداً ثميناً من الاحتياطي الاستراتيجي لقصيدة النثر العربية. كان شعر بسام أحد الأسلحة الثقيلة لهذه القصيدة. ليس بهدف استخدامه في معارك وسجالات وهمية مع الوزن والتفعيلة، بل من أجل تكريس فكرة استخراج الشعر من النثر المحض، وابتكار شخصية مستقلة لهذا النوع من الكتابة. كم هو مؤلم أن نعرف أن حسابه الشعري بات وديعة ثابتة، لن تتلقى تحويلات شعرية جديدة؟ وكم هو موحشٌ أن يغيب اسمه عن الترجمات الأخّاذة التي دأب على إهدائها لنا.
لا تبدأ القصيدة لدى صاحب «فقط لو يدكِ» (1990) من دندنة إيقاعية أو سيولة لغوية. بالنسبة إليه، كانت الكتابة تدويناً ومحواً في آنٍ. تكثيراً من المعنى وتقليلاً من الكلام. «خشيتي من الوفرة والاتساع جعلت مني كاتباً بمفردات قليلة»، هكذا كتب في مقدمة مختاراته «سوف تحيا من بعدي» (2001). كان على الشاعر أن يزيل تراباً كثيراً كي يصل إلى معدن المعنى. لم يشغِّل بسام حجار الشعرَ في خدمته، بل اشتغل هو عند الشعر. لم يسعَ إلى أن يكون نجماً في المؤسسة البيروقراطية للشعر، بل رغبَ في أن يكون عاملاً في ورشته الكتابية، معرِّضاً مخيّلته الخصبة ومعجمه الضئيل لزيت اللغة وشحم استعاراتها.

ربَّى جملته في الصمت والظلّ، بعيداً عن الحماسة البلاغية واللغة المظفَّرة

لعلّ هذه الممارسة تفسِّر لِمَ فضَّل أن يحتجب ويتوارى، تاركاً شعره يسبقه في الوصول إلينا. كان الشعر «مشاغل رجل هادئٍ جداً» (1980)، بحسب باكورته التي اهتدى فيها إلى نبرة مرهفة وعبارة هامسة وخفيضة، حيث الصور تتكاثر وتزدحم تحت سطح الجملة الشعرية، بينما يعمل الشاعر، في الوقت نفسه، على لَجْمِ الضجة التي قد تتعالى من إزاحة المفردات عن دلالاتها وتأويلاتها القاموسية. ازدرى بسام حجار الحماسة البلاغية واللغة المظفَّرة. ربَّى جملته في الصمت والظل. ذهب إلى الحزن والألم المكتوم. كتب في «صحبة الظلال» (1992)، واكتفى بـ«بضعة أشياء» (1997). أكثرَ من الكلام مع مفردات العائلة وأثاث البيت. اكتفى بنافذةٍ ضيقة تُريه «سحابةً وطرفَ مبنى مقابل وعابرين بثياب الشتاء الداكنة». لا مبالغة لو قلنا إن بعض قصائده تصلح أن تكون بياناً فاتناً في «شعرية المنزل».
ورِث بسام حجار، مع عدد من أقرانه وأبناء جيله، «ميراثاً ثقيلاً بالقضايا والصراخ والنبوة والتمرد والإحباط... كان ميراثاً غاضباً، ولم يكن، يوماً، ميراثاً حزيناً»، بحسب تعبيره. كان عليهم أن يسلكوا دروباً جانبية وَعِرة، صانعين ما نسمِّيه اليوم منعطف الحداثة الثانية في الشعرية العربية الحديثة.