في معرضه الجديد، ذهب التشكيلي المصري إلى اللهو، متخلّياً عن سطوة الذهبي، لمصلحة مساحات ملوّنة. «حكايات السيوي» تتّكئ على ذاكرة تخلّصت من كل التحولات الثقافية والذهنية
القاهرة ــ وائل عبد الفتاح
استسلم الشتكيلي عادل السيوي (1952) لنزواته كاملةً. حكى في لوحات معرضه الجديد حكايات عن أشخاص وأشياء وأحلام وكائنات مرّت في حياته، وعادت للحظات في اللوحة ثم اختفت من جديد. غياب يمنح التشخيص جاذبيته المبهجة. «حكايات السيوي» عنوان المعرض الذي يُختتم اليوم في قاعة «أفق واحد» في «متحف محمد محمود خليل» في القاهرة، وكان مفترضاً أن يضم ٧٧ لوحة، إلّا أنّ ظروف القاعة سمحت بعرض ٤٤ لوحة فقط.
كل لوحة نزوة، وكل نزوة جسرٌ إلى أفق جديد بعد تجربة «الوجوه» التي استغرقت ١٥ سنة، وبدأت بفكرة صوفية: التركيز على تفصيل صغير واحد لفهم بقية الأشياء... فالواحد هو الطريق إلى اللانهائي. رحلة من أجل التخلّص من الثرثرة والشحنات الزائدة. واكتشف معها السيوي الوجه الذي يتحوّل إلى قناع أو أيقونة. يختفي أو يصعد إلى مرتبات الحقائق الكاشفة. هكذا، انتهت «الوجوه» بلوحة رسم فيها عادل السيوي تحية كاريوكا في علاقة تجاور مع وجه من وجوهه (أصبحت ماركة مسجلة باستطالتها الخالدة وحضورها بين الذكورة والأنوثة واتساعها لعلامات أسطورية متناثرة). «تحية» أيقونة الرقص الشرقي جاورت الوجه القديم في لوحة كانت الإعلان عن نهاية مرحلة الوجوه. إنها لحظة دخول وجه عمومي مشترك مع الناس كلّهم إلى غرفة الوجوه الخاصة. تحيّة فتحت زاوية الإضاءة وسمحت بخروج هادئ. غربة من نوع مختلف.
هذه النجوم ابنة لحظة منقرضة. والعلاقة مع تصاويرها في الذاكرة العمومية تجربة «بعيدة عن التشكيل» وأقرب إلى اختبار المسافة مع العواطف الجماعية. بعد «الوجوه»، جاءت لوحات تجربته «نجوم عمري» (2006) مشحونةً بالبهجة والفقد.
السيوي لم يُشغل كالـ«بوب آرت» في نقد عواطف استهلاك النجوم. لعبته كانت فتح مساحات تلعثم وارتباك بين الذاكرة العمومية واللهو الشخصي، مع أيقونات جماهيرية. اللعب اتسع في «الحكايات» وغابت الذاكرة العمومية تقريباً. اندفع الفنّان المصري إلى مزيد من الخفة والتحرر من الجمل الكبيرة المكتملة. ليست مجرد محاولة هروب من «ماركة» مميّزة في الأسلوب. إنّها ممر عاطفي يربط بين الجزر المتناثرة في تجربة الحياة. هي بهجة الحكي الحرّ وغواية التشخيص. يمكننا أن نقول ذلك ببساطة عن مرحلة «الخفة» في أعمال السيوي.
خفتت الرؤية السوداء للزمن كدائرة قدرية مغلقة، وتسلّلت مشاعر الزمن كوردة تتفتح كل يوم. ودخلت النزعة التعبيرية، بعاطفيتها المفرطة، في سياقات تشهد محاولات يتعايش فيها الشجن والبهجة. هناك تعايش آخر في اللوحة بين خشونة رفض الكمال الكلاسيكي للوحة، ونعومة إتقان الأدوات والإعجاب الخفي بالمهارة الذاتية.
هذه التعايشات أصبحت علامة عادل السيوي و«ماركته المميزة»، في مواجهة «انقراض» التصوير. معركة يبحث فيها عن جسور مع اللحظة الراهنة. جسور، لا مجرد تصالحات. ويحاول الإفلات من سحر الانتماء إلى فنّ على حافة الانقراض. يبدو السحر هنا في قدرة التصوير على عزل كائنات لها حضور قديم، وممتد عن كل علاقات مكانية. لتواجهنا في تلك اللحظة بكامل ثقلها... وخفّتها.
يتخلّى السيوي في معرضه الجديد عن سطوة اللون الذهبي. يتركه ينسحب كي يفسح المجال لبقع ومساحات ملوّنة (الأزرق والأحمر والأبيض والأسود بل حتى النفسجيّ). لم يعد الفراغ محايداً كما في «الوجوه»، ولم يعد يحتاج إلى ضوء غامض من عمق اللوحة. تكاد الكائنات أن تغادر سطح اللوحة. الشاب المتلصق بأمّه ينظران إلى الخارج. تلمحهما في لحظة المغادرة. التصاق أوديبي يجسّده انتصاب حلمة الأمومة.
لم تعد الشخصيات تنظر إلى المتفرج أو تواجهه. تبدو في وضع استرخاء، مندمجةً في حكايتها، قادمة من رحلة طويلة تناثرت خلالها شحنات العواطف، ورموز وطقوس، وتركت أثرها في ذاكرة تكاد تستسلم لنزقها. جدارية فرعونية محفور عليها بروفايل لشخص تطير أظافره. فانتازيا تجعل نابوليون يطل على «إمبابة» معاصرة، بينما طائرة تخترق وحدها سماءً وتطلّ على ذلك الحي المشحون ببناياته.
الحكاية الآن سيدة بكل ما في التصوير من تلاحق، بين الحرية والحرفية. «ملكة جمال عابدين» تخرج من الذاكرة الشخصية بورودها الحسيّة المثيرة ووقفتها الاستعراضية. جمال شعبي يقف وحده بلا إفراط في التفاصيل، على خلفية لم تقفز إليها، لكنها ذابت فيها أو امتدت من فستانها إلى ما لا نهاية كأنّ جاذبيتها تكسر حدود اللوحة. تطفو «الحكايات» بملامح وأماكن وألوان وأشياء كأنها ميناء مدفون، يظهر فجأةً ظهوره المحيّر. إشارات وعلامات مكتملة عن عالم خفيّ، قريب وبعيد في الوقت عينه. يطفو العالم من تحت السطح لا يسكب فوقه. قبل الظهور، هناك مرحلة تجهيز كاملة، يسكب فيها السيوي طبقات من صبغات وخامات متباينة، تقوده إليها رغبة بين التلقائية والوعي. هذه تراكمات أزمنة تبدو فيها الصور قديمة ومتآكلة، خلف مسافة من حاجز شفاف يفصلك عن لوحات تكاد تلمس شحنات عاطفية على أطراف أصابعك لكنها بعيدة. مسافة لا تمنحك اللوحة مرة واحدة. تصنع غيابها في لحظة الحضور نفسها.
هناك هندسة ما أو لعبة ذهنية وضعت فلاتر شفافة. ربما هي العلامات والرموز المنثورة في اللوحات. وربما حدة الفكرة المتقدة تحت غلالات الحواس.
يبني السيوي لوحته بمزيج من الحسية والحرفية. مع البناء، تتكشّف الحكاية. يغرق السطح في خامات من أجل أن يظهر أشكالاً مخبّأة داخله. الخامات لا تضيف طبقات إلى السطح، لكنها تتحرك داخله باحثة عن الكائنات النائمة منذ زمن، كيف يمكن أن تخرج من شكل هيولي يتضمّن حكايات متعددة... حكاية واحدة؟ هذا هو سؤال السيوي الذي يميل، مثل الحكائيين، إلى اللعب في مساحة بين الفوضى والنظام، محاولاً وضع السدود أمام طاقة المياه الهادرة.

يبني لوحته بمزيج من الحسية والحرفية، وتعشّش الحكاية في بنية العمل
هندسة فوضى تجعله يضع ثنائيات على خلفيات محايدة: «المستشرق والمرأة البدائية». «الأم وابنتها». «الأم وطفلها». «الأثري والتمثال». «الراقصة والطبّال». «الخرتي والسائحة»: ثنائيات في لحظة تصوير قريبة من الفوتوغرافيا، على خلفيات تهيم فيها المربعات أو الدوائر الهندسية، كأنها بألوانها الخافتة تمنح نفسها في لحظة تسجيل من المخيلة الشخصية إلى المخيلة العمومية. في لوحات أخرى، هناك حضور ثلاثة كائنات (إنسان وحيوان ونبات)، وأحياناً يلعب السيوي لعبة أخرى مع التشكيل، فيجلس شخص من شخوص المصور الشهير عبد الهادي الجزار على كرسيّ حلاق، بكامل الكيتش الشعبي، كأنه يقول إنّ «المعاصرة تحلق للحداثة»... أو يضع المصور المعروف جورج بهجوري في ثياب رامبرانت... أو يستدعي من الذاكرة البصرية أشخاصاً في لوحات مصوّرين مشاهير. الجرأة واضحة في التعامل مع تقنيات جديدة، أو أخرى كانت مرفوضة (مثل الغنائية)، ومعها عادت إلى اللوحة التفاصيل من دون شحنات زائدة. تفاصيل تخص مشاعر مرور الحكاية على ذاكرة تتخلّص من تحولات ثقافية وذهنية، لتقف أمام السطح عارية من الخبرات الجاهزة... بكل ما في هذا العري من مغامرة لم يتوقع عادل السيوي أن تصنع كل هذه البهجة.


وجوه وحكايات

ولد السيوي (الصورة) في ١٩٥٢، عام الثورة، في البحيرة في الدلتا. عايش تجربة «حركة الطلاب» في السبعينيات، حين كان طالباً في كلية الطب. في 1979، قرّر أن يتفرغ للفن، سافر إلى إيطاليا وأقام في ميلانو من 1980 إلى 1990. ثم عاد إلى القاهرة حيث يقيم ويعمل. مرحلته الأبرز تتمحور حول «الوجوه»، بدأت عام ١٩٩٥. ثم عرضت لوحات تجربته «نجوم عمري» في ٢٠٠٦، قبل «الحكايات»...