ينحت الشاعر العراقي قصيدته في هلام الذاكرة، مستلهماً طقوس الحضارة السومريّة، في أحدث إصداراته «محاولة فاشلة للاعتداء على الموت» (منشورات الجمل)
حسام السراي
في مجموعته الشعريّة الجديدة «محاولة فاشلة للاعتداء على الموت» (منشورات الجمل)، يبدو شوقي عبد الأمير واحداً من أولئك المتضرّعين الذين كتب عنهم الشاعر البريطاني ولفرد أوين: «ألف متضرع يلتف حول عرشك، مبتلين بحبّك أيها الشعر». في «قيثارة»، و«وجه»، و«سواد»، و«أُحفور»، و«موسى»، و«إضافة»، و«بريد»، يكتب الشاعر العراقي قصائد تستلهم ملامح الحضارة السومريّة بمختلف تجلياتها. يتوحد هنا مع القيثارة ومدلولاتها وأثرها على الموسيقى: «عندما صمتت القيثارة/ انتقلت الموائد إلى الأحشاء...». يعود في ذلك إلى ثنائية الخطاب الرافدينيّ لناحية الجدل المستعر بين الماديّ والروحيّ. «جسد القيثارة الصامت محشوّ بالموسيقى/ مثل رأسي بالأحلام» و«أيتها القيثارة/ يا سليلة الآلهة الوجدانية... أصغي لي: لن تَرِثني أرضي التي ورثتُ». ويبلغ القلق الذاتي أقصاه في «وجه»، مع التعبير عن أهوال اليوميات غير الاعتيادية: «امّحاء يجتازنا كلّ لحظة/ كنظرة خاطفة/ تلك غمامة ستمطر/ لكِنَّا دمُها». يكرّس صاحب «ديوان المكان» في ديوانه الثامن الشعور بالفناء والفقد أمام الأحزان المتكرّرة. وفي محاولة إضافيّة لتحدي تلك الأحزان، يدخل في حوار لامتناهٍ مع منحوتة، هي كائن معدني صنعه نحّات غادر الحياة فجأةً بعيداً عن العراق في مغتربه الهولنديّ: «كان هدير ضحكاته يتصاعد حتى فاض/ على شاشة التلفزيون الصغيرة، أحمر قانياً/ ظلّ يقهقه كمن يستغيث/ لم يتوقف./ مات فقط/ منقذ سعيد».
يبرز تفاعل عبد الأمير الوجودي مع الإرث السومري بإعتباره أولى محاولات تحويل الإحساس إلى رمز. يقتنص التوازي القديم بين الإحساس الداخليّ وقراءة العالم ـــــ المحيط. هكذا، يحاكي الظفر المعرفيّ الذي جسّده اختراع الكتابة، وما يعنيه ذلك من إدراك لمعنى التعبير وتسجيل الهواجس وتحويل الإشارات المحسوسة إلى فكرة مدونة.
يتجسّد هذا الارتباط بوضوح في قصيدة «سواد»، وفي المحاولة العدميّة للاعتداء على الموت. يكتب كاهنة سومريّة تطلق أحكامها محذّرة من الذكرى وتابوتها: «الخبز أكثر أشكال النار/ اكتئاباً./ الجمرة الدائمة/ هي الشفاء من النار... احفظ عني؛ لكن إياك أن تتذكّر...»
رغم الغضب الذي يصبّه الشاعر على الواقع، نراه يواصل إشعال النار في رماد الماضي، فيقول: «نخيل الجنوب التي انتقلت/ مع الدخان/ إلى ربيع سماوي/ تمدّ جذوراً على صفحتي البيضاء...» يعود في كلّ ذلك إلى المكان الأول، إلى «سوق الشيوخ» في مدينة الناصرية (جنوب العراق) حيث ولد عام 1949. يكتب «أفركُ مرآة نهاري/ بنظرة ممحاة/ أحفظها عن ظهر قبر/ التقيته في «سوق الشيوخ». يخبرنا عن الخال رشيد: «لم أرَ جبينه المحمّر ولا حملقت عيناه /لم يتأوّه بحشرجة الزمن العراقي/ لم يقل الناصرية مدينتي يا... ولا لعن بغداد/ لم يسأل عن طباعة مخطوطته التي اهترأ غلافها/ بين يديه». يتجلّى هنا ذاك النهج الصوفي، حيث الحياة في الموت، وموت الجسد في حياة الذكرى، وموت حلم طباعة مخطوطة الخال ببقاء شعريتها. وخال الشاعر هو رشيد مجيد أحد روّاد الشعر العراقي الذين عايشوا بدر شاكر السيّاب.

يكتب عن الفناء والفقد... ويتحدّى الحزن أيضاً

في قصيدة «سومرّاء» يخطّ ذلك القلق الذي يلازم تفكير السومريّ بالماء وعلاقته بالآلهة. يحدّق الشاعر إلى النهر، ويستعيد رقصة سامراء الشعائريّة (أواخر الألف السادس قبل الميلاد) لأجل استجلاب المطر. يسلك طرقاً تاريخيّة أخرى في «أحفور»، حيث يستقرأ منحوتة قديمة لوجه إله كان يُعبد في الجزيرة العربيّة في مطلع الألف الميلاديّ الأول. يجد فيها تناقضات وثنائيّات من صلب حربه المعلنة على فكرة إلغاء الجسد ـــــ الروح. تجده يقلب هواجسه بين ثنائية الحياة ـــــ الموت، ويواصل النحت في جسد الأسطورة والتراث الديني. إنه في سعي دؤوب نحو خلق علاقة كليّة مع الكون والماضي. في قصيدة المجموعة الأخيرة «بريد» يجرّد مفاهيم المكان والمدينة، ويصبها في شكل جديد ينعتق من كل خصوصية. تستحيل إلى مفاهيم خاصة بالشاعر وحده، سبق أن ترسّخت في ذاكرته من هذا المكان أو تلك المدينة: شَمع، جنوب، جامع الناقة، بتراء، بيروت قبل، حصرائيل. قد يكون إخضاع الثوابت المكانيّة إلى جدلية القصيدة، إدانة التغريد داخل السرب. هو جزء من محاولة أشمل في الاعتداء المشروع والمبرر على الخراب والموت. اعتداء غير مكتمل على المباغتة في تقرير المصائر.