بيار أبي صعبفي الماضي القريب، كانت أولويّة السلطة في مصر هي استيعاب المثقفين، لتأمن «شرّهم» وتتّقي نقدهم ومعارضتهم. والمثقفون في بلد النهضة العربيّة البعيدة، لم يكونوا يومذاك حالة هامشيّة، بل طالما شكّلوا نقطة ثقل أساسيّة في تحديد ضمير المجتمع ووعي الجماعة. هكذا تمّت عمليّات الاحتواء والتدجين والتحييد خلال العقود الماضية، ومن وسائلها صياغة خطاب تقدّمي رسمي، تطلّ به السلطة لغواية أهل الفكر والإبداع. أما كلمة السرّ في هذا الخطاب، فكانت «التنوير». لم نشارك في تظاهرة ثقافيّة في القاهرة، خلال الثمانينيات والتسعينيات، إلا وطالعتنا رايات التنوير، وحاصرتنا صور طه حسين، وتوفيق الحكيم والآخرين. صحيح أن نصر حامد أبو زيد طرد من الجامعة، وطلّق من رفيقة دربه وهرب من مصر، لكن ما همّ! كنا ننتشي لأدبيات التنوير وشعاراته وكتبه ودراساته ومؤلفاته. وكان اسم علي عبد الرازق على كلّ مسرح ولسان. كان الخيار إما أن يكون المرء مع «التنوير» (أي مع السلطة سنده الأخير)، أو مع «الظلاميّة والإرهاب» (أي مع الجموع المقهورة سياسياً واجتماعياً وقوميّاً التي وجدت ملاذها في التفسيرات المشنّجة للخطاب الديني).
ثم تفاقم الانهيار، وتفشّى الفساد والاستبداد وخدمة مصالح المستعمر حتى حراسة معبر رفح لصالح إسرائيل... ولم يعد هناك ـــــ باستثناء دائرة ضيّقة من الشجعان، الذين يختزنون روح مصر وضميرها ـــــ من يرفع صوته اعتراضاً! لقد انهار المثقفون ودُجّنوا، أو زجّوا في دوائر الضعف والعجز واليأس. لم يعد هناك ما يجعل السلطة تخشى جانبهم. صار من الممكن التنازل لـ«الظلاميّة» عن شعار التنوير الذي مرّ عليه الزمن، والتضحية بطه حسين... أو حذفه من المستقبل.