خليل صويلحلعلها أول سيرة ذاتية عربية تُكتب شعراً. إذ شاء الشاعر العراقي هاشم شفيق أن يستعيد حياته «إيقاعياً»، كما لو كانت أغنية شجن عراقية محملّة بالأسى والحنين. سيرة تجوس تضاريس الطفولة والصبا والشباب في رحلة منافي لم تتوقف إلى اليوم. «البحث عن الزمن الحاضر» (دار كنعان ــــ دمشق) بهذا المعنى هو القبض على لحظة هاربة، تشع في ذاكرة استعادية متوقدة عن ذلك الطفل الحافي الذي كان يجمع المسرّات في البراري، ويتلمّس ألوان الحجارة والنباتات، قبل أن تقذفه الريح «إلى حجر دائر في كل اتجاه». في سيرة الصبا، سيُصفع الفتى بأصوات التظاهرات وسقوط الملكية في العراق ليخرج من «النشيد الملكي إلى نشيد العامة» والنوم في الفنادق الرخيصة، ومغازلة النساء في شارع النهر. هكذا، تتكشف صورة بغداد مطلع السبعينيات عن صعاليك بسراويل الـ«شارلستون» وصور غيفارا، يجوبون الشوارع والحانات، وهم يتأبطون «سارتر، وكامو، والمتنبي، والسيّاب».
من بغداد إلى باريس، سينفتح المشهد على متشرّد فوق أرصفة «سان ميشال» وشاعر جوّال يقتفي أثر رامبو في الحانات، يدخّن زهرة الخشخاش «كي أسرح في اللاجدوى». سيعمل كنّاساً في مطبعة «ومصحح مخطوطات، وغسّال صحون» إلى أن يكتشف «اللذة منشورة فوق الحبال» وعلى جدران المتاحف.
في مطلع الثمانينيات، سيحط صاحب «أقمار منزلية» في بيروت، ليباغت بحرب دائرة بين المتاريس، فيلجأ إلى «الفاكهاني» ويدخل متاهة الحرب العبثية «رأينا ابن آوى يلقي خطبةً في الميادين

سيرة ذاتيّة كتبت شعراً كأغنية شجن عراقية

والثكنات/ رأينا ما لا يُرى». صورة بيروت في سيرة هاشم شفيق مغبّشة بالأحلام المكسورة وأزيز رصاص القنّاصة، ووجوه من ماتوا في الحرب، وامرأة نحيلة من البنفسج، وسفينة تمضي «ذات فجر حزين ومحاصر صوب مدائن أخرى». هكذا، سيحط الرحال في دمشق ويطيل المكوث لتصير الشام «مرشدي وشفيعي، حين يدهمني الضياع». كأن دمشق تجلو صدأ مدن أخرى، وتشفي الغريب من ندوبه «هناك مسّني شبق دمشقيّ، فأطال مكوثي داخل الهناء». ومثل مدن أخرى ستكون الحانات مهبط أقدام الشاعر، لتتبخر الكلمات فوق موائد السكارى، وتهبّ روائح العطّارين في الشوارع والأسواق القديمة، وإذا بمقام الشيخ محيي الدين بن عربي هو الملاذ في الهجير. قبرص محطة الشاعر الأخيرة في سيرته. جزيرة هوميروس وسقراط وبينلوب وبحّارة، وتشرّد في منفى نحصي فيه الخسائر والعقبات التي تعيق الأنفاس.
لا ندري أسباب هاشم شفيق في كتابة سيرته شعراً، لكننا سنفتقد وقائع سردية غائبة، وتفاصيل لا شك في أن وجودها سيملأ الفراغات. كأن هذا الشاعر العراقي الأليف لا يرغب بهتك اللغة بخشونة ليست من طبائعه، على رغم دأبه في ترميم المشهد بالإيقاع، والكثافة البلاغية، واسترداد زمن منهوب بالمنافي والتسكع والألم. من مقلب آخر، يمكن اعتبار هذه السيرة معجماً للروائح والنباتات والأحجار. إذ تحتشد فصولها بأسماء لا تحصى لموجودات الطبيعة وأنواع الخمور وأسماء المقاهي والحانات. الحانة هي بيت ومأوى ومصير للعراقي. هذا الولع بالمسميات الغريبة نجده بوفرة في نصوص صاحب «وردة الحنّاء» كأنه عطّار بغدادي قديم لم يغادر دكانه الأول.