ما زالت قصيدته راهنةً أكثر من أي وقت مضى. تمرّد على المؤسّسة الرسمية واختار الهامش وناصر المنبوذين... حقيقة جوهريّة لن تمحوها احتفالات التكريم

محمد شعير
رغم مرور 27 عاماً على رحيله، لا يزال أمل دنقل حاضراً في المشهد الشعري العربي، وقصيدته تزداد إشراقاً يوماً تلو آخر. قصيدة فاعلة لم تتخلَّ عن موقفها الجمالي الذي هو «جوهر» موقفه السياسي والفكري. لقد صنع أسطورته الخاصة بوصفه واحداً من الذين اختاروا الوقوف على هامش المؤسسة الاجتماعية والثقافية والسياسية. رغم أن قصائده اعتبرت أيقونةً للمقاومة، إلا أنّ نقاداً كثيرين يؤكدون انحياز الشاعر إلى مبدأ الحرية. من هنا، يظهر خلف نص الرفض والمقاومة والتحريض، نص آخر يكتبه «الرجل الصغير» والهامشي، في علاقته بمدينته وسكانها من المنبوذين والمهمشين.
قصائد أمل حاضرة بقوة تثير الدهشة، ليس فقط لأنّ «الجنوبي» صاحب قصيدة سياسية لم يتغيّر الظرف الذي كتُبت خلاله، بل لأنه يلمس أعمق ما في الحدث. ليست أشعاره فقط ضد «الدكتاتورية» و«القهر» أو الصلح مع إسرائيل، أو حتى ضد أخلاق البرجوازية المصرية. بل إنّه لم يكن «معارضاً سطحياً» وفق الناقد محمد بدوي: «يلتقي في النهاية مع السلطة في مجمل رؤيتها للعالم مثل نزار قباني... بل إنّه شاعر معارضة في نقده للأسس التي قامت عليها كل أشكال السلطات، سلطات قهر الجسم البشري، ومراقبة هذا الجسم، والاعتداء والعنف وهو ما نكاد نجده في كل قصائده».
ويضيف بدوي «الشيء الوحيد الذي التقى فيه أمل مع السلطة العربية، أنه آمن بالأصل العربي لهذه السلطة كهوية وكثقافة. وهذه المفارقة بين جذرية نقده الشعري وكلاسيكية اللغة عنده وانضباطها وصرامتها الشديدة». وربما لهذا، لم تتحمل المؤسسة الثقافية الرسمية أشعاره. عندما رحل عام 1983، لم يكن قد

عندما رحل عام 1983، لم يكن قد أصدر أيّاً من دواوينه في مصر

أصدر أيّاً من دواوينه في مصر. بل صدرت كلّها في بيروت، ونشرت «دار الآداب» ديوانه الأول «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» (1969)، وأصدرت «دار العودة» دواوينه الأخرى: «تعليق على ما حدث» (1971)، و«مقتل القمر» (1974)، و«العهد الآتي» (1975). وحدهما الديوانان الأخيران صدرا في القاهرة، بعدما اطمأنت المؤسسة إلى رحيله، فصدر «أوراق الغرفة 8» و«أقوال جديدة عن حرب البسوس». وما ينطبق على النشر ينطبق على النقد. قليلة هي الدراسات التي كُتبت عن أشعاره قبل الرحيل. وعلى فراش المرض، كتب يوسف إدريس صرخته الشهيرة «بالله لا ترحل يا أمل، فكلنا فداؤك»... مناشداً الدولة التدخل لإنقاذ شاعر التمرد، لكنّ وزير الثقافة عبد الحميد رضوان تساءل يومذاك: «من يكون أمل دنقل؟».
اليوم يبدو الوضع مختلفاً، لا تتصدر قصائد أمل دنقل التظاهرات في مصر فقط، أو يصبح شعره أيقونةً، بل تلجأ إليه المؤسسة الرسمية أيضاً. منذ سبع سنوات، أقام له «المجلس الأعلى للثقافة» احتفالية كبيرة، وكان وزير الثقافة فاروق حسني مهتمّاً بإقامة معرض مستوحى من أشعاره. واليوم، تريد «مكتبة الإسكندرية» أن تسبق الجميع في الاحتفال بأشعاره، بل إن احتفاليتها تسبق الموعد الرسمي لميلاده بخمسة شهور. هل أصبح أمل مستأنساً إلى هذه الدرجة؟