بشير صفيرإن الاستماع الأول إلى أيّ أسطوانة موسيقية يختلف عن كل الإعدادات اللاحقة. لدى المقاربة الأولى، يكتشف المستمع لحظات الذروة والنمط الموسيقيّ وتوجّهه (جادّ أو تجاري). بعد ذلك، ينتقل العقل، في حال الموسيقى الجادّة، إلى التنقيب عن قطب خفية من الجمال. إذا طبّقنا هذه المعادلة على أسطوانة «أماكن» للمؤلف وعازف العود اللبناني أندريه الحاج، نستنتج أوّلاً أنّه أصيل التوجّه في القالب الشرقي الذي يقدمه، وثانياً أنّ لحظات الذروة قليلة نسبيّاً. وثالثاً أنّ التنقيب من خلال



مقطع من "دفا"










التكرار سيكشف للأذن تفاصيل جميلة وأخرى تطرح علامات استفهام.
بدايةً، إن أفضل ما في العمل أنّ الحاج لم يجترّ الكلاسيكيات. بل سلك طريق التأليف الخاص الذي يقدّم قدرات شخصية، فاستنتج مباشرةً من الإرث الشرقي من دون التعويل على إبداعات الأسلاف. أما الأهمية الإضافية، فهي عدم لجوئه إلى تفاعل الغرب والشرق، ذاك الدهليز الخطِر الذي لا يُستحسن الدخول فيه إلا من خلال رؤية مقنِعة لا تستجدي الاعتراف بل تفرض واقعاً جديداً قابلاً للحياة.
حوى «أماكن» 12 مقطوعة ترسم لوحة شرقية متينة، بكل ما

تجنّب المؤلف فخّ «التفاعل بين الشرق والغرب»
تفرضه من إيقاعات ومقامات وقوالب. وقد اعتمد الحاج (عود وبزق) التسجيل المضاعف، فتارةً يضيف العود إلى العود، وطوراً العود إلى البزق، ما يُغْني التلوين بلا شك. وكذلك بالنسبة إلى الإيقاعات. في هذا السياق، يقدم الناي مساهمة جيدة وكذلك الكمان. لكن علامة الاستفهام تُطرح حول القانون، فالآلة غائبة نسبياً. وفي أحسن الأحوال، تتولى فواصل نادرة أو يقتصر حضورها على المرافقة المنكفئة (تُستثنى مقطوعة «زَرْكَفَند»). وهذا فعلاً لا مبرّر له بوجود عازف قادر على أداء هذا الدور
الحيوي.
عموماً، كل المقطوعات جيدة، ولا إخفاقات في التأليف ولا التنفيذ، مع الإشارة إلى بعض التكرار وإلى غياب نسبيّ للتطوير اللحني المتين الذي يولد تفوقاً لقدرة المؤلف على الخلق على قدرة



مقطع من "رحيل"










المستمع على التوقُّع. في المقابل، هناك لحظات تستحق تحيةً، مثل مقطوعة «دفا» للعود المنفرد (عبارات العود عند الدقيقتين وثانية واحدة)، والانتقال من الموقَّع إلى المرسَل (في المقطوعة ذاتها) الذي يعطي إحساساً جميلاً بحدود القدرة على ضبط الأحاسيس. وأيضاً التعبير الموفق عن مشاعر البدو لحظة فراق الأمكنة عندما يحين الرحيل، في مقطوعة «رحيل»، وذلك عبر استخدام المقام (حجاز) والإيقاع (نوّاري) المناسبَين. وكذلك، الأرضية الشرقية الفوضوية الشكل في مطلع «خواطر»، عبر تقاسيم جميلة، مرسَلة ومتزامنة للعود والناي والكمان (في مقام النهاوند)، توحي بتمهيد لموّال لن يأتي.
في «أماكن» أماكن كثيرة أخرى، منها ما يدعو إلى التوقف والاستمتاع... ومنها ما لا يجتذب السمع إلا لماماً.