إنّه شاعر السينما، وسينمائي المرأة، والأب المؤسّس لـ«الموجة الجديدة». انطفأ على أبواب التسعين، تاركاً علامات أساسيّة، غيّرت مسار الفنّ السابع


سناء الخوري
لا تبحث عن الحدث في أفلام إيريك رومير (1920 ـــــ 2010). المعلّم الفرنسي الذي انسحب بخفّة أول من أمس عن 89 عاماً، جعل النصّ حدثه الأثير والمطلق. خلال خمسة عقود من الحفر في أساسات السينما الرصينة والمرهفة، لعب رومير على الخيط الرفيع الفاصل بين الضجر والإثارة المطلقة... الصمت، والنظرات، وأبواق السيارات، والجلد العاري... كلّها أحداث كبيرة في أفلامه. أعماله ـــــ رغم وعورتها وما فيها من إشباع نصي يستلهم المسرح الكلاسيكي ـــــ قصص حب على طريقة «الموجة الجديدة». أليس هو من لخّص تجربته قائلاً: «أنا لا أحكي، بل أعرض...»؟ رومير يعدّ مؤسس «الموجة الجديدة»، وأبرز منظّري ذلك المنعطف الحاسم في السينما الأوروبيّة. أنجز أعماله المرجعيّة من دون أن يغادر موقع الناقد الذي تولّى منذ 1957 رئاسة تحرير «دفاتر السينما». بدأ جان ماري موريس شيرير (اسمه الأصلي) أستاذ أدب قبل أن يدير «نادي السينما» في الحي اللاتيني مطلع الخمسينيات، ذلك النادي الذي انطلق منه جان ـــــ لوك غودار وفرانسوا تروفو وكلود شابرول وأترابهم...


أعماله دارت حول تيمة الحب بتنويعاتها

باكورته «برج الأسد» (1959) لم تحقق أي نجاح، وكان لا بد من الانتظار عقداً كاملاً، كي يسجّل رائعته «ليلة عند مود». إنها قصّة رجل موزّع بين الوفاء لحبيبته، أو الارتماء في أحضان امرأة أخرى تثير مشاعره. ذلك هو رومير، جميع أعماله تنويعات على تيمة الحبّ.تميّزت مسيرته الحافلة بالاستقلاليّة. أسّس شركة إنتاجه Les Films du Losange، واخترع منظومة النجوم الخاصّة به، فكان مكتشف أسماء لامعة على الشاشة الفرنسيّة، مثل فابريس لوكيني، وأريال دومبال. رفض القوالب الجاهزة، واضعاً لبنات أساسيّة في ما عُرف بسينما المؤلف. وقامت سينماه على الإخراج الشفاف، وألعاب الإغواء المتبادلة، والمقاربات المختلفة لمفهوم الأخلاق المُبهم... في 2001، نال «الأسد الذهبي» في «مهرجان البندقيّة» (فينيسيا) عن مجمل أعماله، ووقع عام 2007 آخر أعماله Les amours d'Astrée et de Céladon، ثمّ قرر التقاعد. اليوم، نودّع مُخرجاً رفع السينما إلى أقصى درجات الشكّ والسحر.


كوميديا وأمثال...

مثل بالزاك وزولا، كتب رومير أعماله في سلاسل مترابطة، تعالج كلّ منها تيمة رآها ملحّة. أصرّ صاحب «ركبة كلير» (1970) على أنّه مؤلف، يكتب للسينما. هذا ما نستشفه من خلال سلاسله الأربع التي بدأها مع «ست قصص أخلاقيّة»، وهي مجموعة من فيلمين قصيرين، وأربعة أفلام صنعت شهرته أواخر الستينيات. أبرز أعمال تلك الحقبة «ليلتي عند مود» (1969)، و«ركبة كلير» (1970). في الثمانينيات، أنجز سلسلة «كوميديا وأمثال»، ارتكز فيها على أعمال أدبيّة لموسيه، ولافونيتن، ورامبو، وأشهر أفلامها «بولين على الشاطئ» (1983) الذي أطلق ممثلاً فتيّاً اسمه... فابريس لوكيني. في التسعينيات، أنجز رومير «قصص الفصول الأربعة»، قبل أن ينتقل مطلع الألفيّة الثالثة إلى الدراما التاريخيّة مع ثلاثة أعمال مقتبسة من أحداث تاريخيّة كان آخرها «قصص حبّ أستريه وسيلاد» (2007).


سينمائي المرأة

في La collectionneuse، يحاول البطل أدريان فهم هايدي، تلك الفتاة الجميلة التي جاءت تمضي العطلة في المنزل نفسه معه... ماذا يفعل بها؟ يحبها أم يكرهها؟ أيكتفي بصدقاتها أو يمارس الحب معها؟ أمّا بولين، بطلة «بولين على الشاطىء»، تلك المراهقة التي تبدأ باكتشاف عالم العواطف والجنس، فتعلن منذ اللحظة الأولى أنّها لا تفهم الرجال، أنها تخاف منهم، وأنّها لا تعرف كيف يصرِّفون رغباتهم. من جهتها تحتفظ كلير، صاحبة أشهر ركبة في الفن السابع، برهافتها وعشقها الصادق، رغم محاولات جيروم المستميتة للمس ركبتها... صوّر إريك رومير أحاسيس المرأة، نقل هواجسها وآلامها، وعقدها الصغيرة، وأحلامها. كان سينمائي المرأة بامتياز في مرحلة شهدت صعود حركات التحرر النسويّة. لكنّه، بعيداً عن الشعار الخارجي، أصغى إلى شخصيّاته النسائيّة إلى درجّة التماهي.