في «كتاب الغواية» (دار العين ــ القاهرة)، يستبدل الكاتب المصري الورق المعطّر بشاشة الكمبيوتر... وإذا بالأدب يطلع من رحم البريد الإلكتروني
خليل صويلح
كان الروائي والصحافي المصري عزت القمحاوي (1961) قد فتح قوساً في كتابه «الأيك في المباهج والأحزان» وترك هذا القوس مفتوحاً إلى أن أنجز أخيراً «كتاب الغواية» (دار العين ـــــ القاهرة). هناك بالطبع مقاصد مختلفة بين الكتابين. لكن القارئ سيستعيد ذلك الكتاب المتفرّد في بهجة الحواسّ كأنه عتبة للكتاب الثاني، فكلاهما يصبّ في مجرى واحد لجهة الاكتشاف والمكاشفة.
في «كتاب الغواية»، يعترف صاحب «مدينة اللذة» بأنّ هذه النصوص كُتبت كرسائل إلكترونيّة شخصية «أستنفد فيها هذيان أصابعي، كلما افتقدت ملمس حبيبتي. إذ اعترفت لي بشكل عابر: أنني أغوى بالكتابة».
حاسة اللمس هنا تشتغل بأقصى طاقتها لردم مسافة الفقدان. وإذا بملمس صفحات كتاب ـــــ كانت قد أهدته إياه حبيبته ـــــ يعوّض بعضاً من غيابها. ها هنا قد مرّت أصابعها وهناك طوت صفحة بعينها، وفي مكانٍ آخر تركت رائحتها. وحين نكتشف أن الكتاب المقصود هو «في غابة المرآة» للأرجنتيني ألبرتو مانغيل، القارئ الشخصي لخورخي بورخيس، نتلمّس مفاتيح الخزائن المغلقة، وكأنّ «عمى» بورخيس ما هو إلّا ذريعة لإبصار فتنة القراءة ذاتها، ولاحقاً الكتابة. إذ يشكو عزت القمحاوي في الرسائل من أنه لم يتمكّن بعد من القبض على ما استعصى في نصّه الروائي المؤجّل منذ سنوات، على الأرجح بسبب انهماكه في العمل الصحافي. وهنا يستعين بغابرييل غارسيا ماركيز في مذكّراته «عشت لأروي» لتبديد قلقه في معرفة «كيف امتطى ظهر النمر الصحافي، وكيف ترجّل عنه من دون أن يلتهمه؟». الكتابة فعل شبقي في المقام
الأول.
هذا ما يؤكّده صاحب «الحارس» في رسائله المتبادلة مع حبيبته البعيدة، إذ تمتزج أشواق اللقاء بأشواق الكتابة، وما هو ذاتي يختلط بمكابدات المهنة، ليتوغل في متاهة الكتب «أتتبّع مثل قصّاص أثر علامات أصابعك». هكذا تزدحم رفوف المكتبة تدريجاً بأسماء كتب ومؤلفين كانوا عوناً له في تبديد وحشة الغياب. يتوقف أولاً عند «شرفة ابن رشد» لعبد الفتاح كيليطو ليتعلّم منه ثمرات حبّ الكتب التي تجعلنا «نشتهي الكتب التي قرأها، وتفتح حواسّنا على تجاربنا الخاصة».
من شرفة ابن رشد إلى شرفة «الراوي»؟ هناك سيتلقّى رسالة تلفونية حاسمة من حبيبته «تبدو في الشرفة الآن، تقرأ». هذا الحدس كان صحيحاً كما يقول، فلحظتها كان يجلس في الشرفة يقرأ قصائد عن المطر للشاعر الإيطالي أونغاريتي. تلصّص القارئ في اكتشاف وقائع شخصية، سيوقفه عند أبواب الشتاء، إذ ما انفكّ الراوي في رسائل لاحقة يذكّرنا بحاجته إلى الدفء في أحضان حبيبته التي تتدفّأ هي الأخرى بغطاء مزوّد بشحنة كهربائية. سرير الوحشة يقودنا إلى منامات الكاتب وأحلامه «كثيراً ما شاغلت نومي كتابة الأحلام اللعوب، ولكنها تمضي دائماً بعد أن تترك ندبة في القلب وتزرع الوقيعة بيني وبين كتابتي في اليقظة، تلك

يتوقف أوّلاً عند عبد الفتاح كيليطو ليتعلّم حبّ الكتب

التي لن تبلغ أبداً مبلغ كتابة الأحلام». سوف يرتّب القمحاوي مكتبته في فترة نقاهة كما لو أنه في متاهة بورخيس، ليختبر حميمية كتاب ما دون غيره، ونزوات كتاب تركوا ندوبهم على ذاكرته من ثرفانتس إلى دانتي وتشيخوف وكافكا، إلى خصوصية الإهداء، وكتابة الهشاشة واللّايقين والصمت.
هل ما يكتبه عزت القمحاوي في «كتاب الغواية» اعترافات؟ في إحدى رسائله يتوقف ملياً أمام كتب السيرة والاعترافات، لينتصر للياباني يوكيو ميشيما في «اعترافات قناع»، ومحمد شكري في «الخبز الحافي»، قبل أن ينقضّ على تجارب في الرواية العربية في نسختها الجديدة التي «نقلت فضائل البوح والكشف والتعرية من مقام الفن إلى مقام نشرة الأخبار».
في الرسالة الرابعة عشرة، ينتقل صاحب «مواقيت البهجة» إلى حاسة الشم عبر الصوت. مكالمة هاتفية في كابينة زجاجية في أحد شوارع باريس، أيقظت روحه على الحب في مدينة مرصودة للشهوات. وإذا بحبيبته تصير موناليزا أخرى على أحد جدران متحف «اللوفر». هذا التعالق بين الشخصي والإبداعي هو سكة قطار الغواية في ترحاله بين الأزمنة والمدن وشهوات الكتب، وأشواق الملامسة، وسرّ غموض الحب. لعل القمحاوي يدخل منطقة إبداعية مغايرة في أدب الرسائل، حين يستبدل الورق المعطّر بشاشة الكمبيوتر.