المفكّر المناهض للعولمة انسحب في الثالثة والستين

لعب، على مدى أربعين عاماً، دوراً بارزاً في تجديد الفكر الماركسي، وتجاوز دوغما الشيوعيّة الرسميّة. بموازاة نضاله الميداني ــ من الثورة الطلابيّة في مايو 68 إلى اليسار الجديد وتحدياته الراهنة ــ كتب بغزارة في الفلسفة وعلم الاجتماع والاقتصاد السياسي، وصولاً إلى كتابه الوصيّة «ماركس... دليل استعمال»

باريس ــ عثمان تزغارت
أشاد جاك دريدا، بـ«الروح السيزيفية» لدانييل بن سعيد، بوصفه مفكراً مسكوناً على الدوام بروح الثورة والمقاومة والتمرد، داعياً إلى استعادة جذوة البدايات ونقائها
غيّب الموت في 12 كانون الثاني/ يناير، المفكر الفرنسي دانييل بن سعيد (1946 ــــ 2010)، أحد أبرز منظّري اليسار الثوري العالمي. أدّى صاحب «ماركس: هيروغليف الحداثة» دوراً طليعياً في التأسيس لفكر «التجديد الماركسي»، قبل انهيار الكتلة الشرقية وبعدها. لم يكن المفكر الإشكالي يتردّد في التغريد خارج السرب، محفزاً رفاقه في الهيئة القيادية لـ«الأممية الرابعة» على خلخلة اليقينيات الدوغمائية، ومقاومة الفكر التوفيقي (راجع الإطار أدناه).
في تأبين بن سعيد، قال رفيق دربه في «الرابطة الشيوعية الثورية» ألان كريفين: «كان دانييل بن سعيد دوماً بمثابة ثورة داخل الثورة». ومنذ سنوات، أشاد الفيلسوف الراحل جاك دريدا، بـ«الروح السيزيفية» لدانييل بن سعيد، بوصفه مفكراً مسكوناً على الدوام بروح الثورة والمقاومة والتمرد. وأضاف دريدا، خلال حفلة تنصيب بن سعيد مديراً للدراسات في «معهد الفلسفة» في جامعة «السوربون الثامنة» عام 2001: «كتابات بن سعيد تعطي الانطباع بأنه على موعد دائم مع الثورة. معه لم تعد الثورة حلماً ميتافيزيقياً، أو حدثاً غامضاً محاطاً بهالة أسطورية، بل حتمية ملموسة...».
ذلك الموعد الدائم مع الثورة، منح بن سعيد روحاً نقدية متّقدة. في أواخر عام 1965، فُصل من «اتحاد الطلبة الشيوعيين»، بسبب اعتراضه على توجيهات «الحزب الشيوعي الفرنسي» بالاقتراع لمصلحة المرشح الاشتراكي، فرنسوا ميتران خلال انتخابات الرئاسة. هكذا أسس، وهو لم يتجاوز العشرين، فصيلاً يسارياً منشقّاً سمّاه «الشبيبة الشيوعية الثورية». توقع كثيرون أن يكون ذلك التنظيم الطلابي مجرد فصيل تروتسكي هامشي، على غرار عشرات التنظيمات الثورية التي كانت تعجّ بها الجامعات الأوروبية آنذاك. لكن انتفاضة أيار (مايو) 1968 أثبتت العكس، إذ استطاع بن سعيد ورفاقه من قادة «الانتفاضة الطلابية» تقويض أركان النظام الديغولي المتسلّط. غير أن الفرق بين دانييل بن سعيد ومعظم رفاقه في انتفاضة أيار/ مايو 68، أنّه قاوم حتى اللحظة الأخيرة، مغريات الاستبلشمنت، ورفض أن يطرح أحلام الثورة جانباً، للاندماج في اللعبة السياسية التقليدية، على غرار دانييل كون بنديت الذي أصبح نائباً برلمانياً، وسيرج جولي الذي صار مديراً لـ«ليبراسيون» قبل أن تطرده منها الرأسمالية التي أدخلها بنفسه إلى الكرم.
لم تكن الثورة بالنسبة إلى بن سعيد مجرد نزوة شباب عابرة. بعد مايو 1968، عمل على لمّ شمل اليسار الثوري الفرنسي، تحت لواء «الرابطة الشيوعية»، ما خوّله أن يُنتخب، سنة 1969، ضمن الهيئة القيادية لـ«الأممية الرابعة». من خلال الأخيرة، أدّى على مدى أربعين عاماً، دوراً بارزاً في إخراج الفكر التروتسكي من طابعه النخبوي والهامشي، داعياً إلى تجاوز التخندق التقليدي في مواجهة «الأخ الأكبر» الستاليني، لأنّ تلك المعارك الجانبية شغلت اليسار الثوري عن قضاياه الطليعية في مقاومة الظلم والاستغلال والدفاع عن المسحوقين والفقراء والمهمّشين.

معه لم تعد الثورة حلماً ميتافيزيقياً أو أسطورة... بل حتمية ملموسة (جاك دريدا)
من هذا المنطلق، أدّى بن سعيد، عبر نشاطاته النضالية ومؤلفاته الفكرية التي فاقت 30 كتاباً في الفلسفة وعلم الاجتماع والاقتصاد السياسي، دوراً طليعياً في تجديد الفكر الماركسي، داعياً إلى استعادة جذوة البدايات ونقائها، لكسر الدوغما التي ارتبطت بالشيوعية بفعل التجربة السوفياتية. ولعل خير نموذج عن ذلك الدور الطليعي، الذي كان لكتاباته، إسهامه خلال العقد الماضي في تأسيس مرجعية يسارية مجدّدة تخرّجت من معطفها حركات مناهضة للعولمة.
اللافت أنّ بن سعيد لم ينتظر مدّ العولمة الجارف، وما أفرزه من ليبرالية متوحشة للشروع بهذا المسعى التجديدي، بل تصدّى بالنقد للفكر اليساري التقليدي، قبل انهيار الكتلة الشرقية. تكفي العودة إلى كتابه المرجعي «الثورة والسلطة» (1976)، وأعمال أخرى من «فالتر بنجامين: طليعة تبشيرية» (1990) إلى «ماركس: هيروغليف الحداثة» (2001)، مروراً بـ«الأزمنة النشاز: بحث في الأزمات والصراعات الطبقية والتاريخ» (1995).
كان بن سعيد حاضراً دوماً في التظاهرات والتجمعات المعادية للعولمة في جهات العالم الأربع، وسعى إلى مواكبة هذا «اليسار الجديد» بكتابات تنظيرية بالغة الأهمية. هكذا أصدر عام 1999 ـــــ قبل أشهر من المواجهات الدموية التي نشبت على هامش قمة الدول السبع الكبرى في سياتل ـــــ كتاباً أصبح «إنجيل اليسار الجديد»، بعنوان «في مديح المقاومة وروح العصر»، ثم جاء كتابه «الفكر الأممي الجديد» (2003)، الذي يُعدّ الأكثر شعبية وانتشاراً في أوساط نشطاء معاداة العولمة.
رغم معاناته من السرطان، احتفظ بن سعيد بحيويته الفكرية والنضالية، وكان إنتاجه خصباً. في عام 2009، أدّى دوراً بارزاً في توحيد صفوف اليسار الفرنسي، وتأسيس «الحزب الجديد المعادي للرأسمالية»، كجبهة موسعة في مواجهة الساركوزية. وعلى الصعيد الفكري، أصدر في العام الأخير من حياته، ثلاثة كتب «من أجل اشتراكية القرن الحادي والعشرين»، «الديموقراطية: في أيّ حال؟»، وأخيراً كتابه ـــــ الوصية «ماركس: دليل استعمال».

عن حتمية سقوط «الأبارتايد» الإسرائيلي



شكّل الموقف من القضية الفلسطينية إحدى نقاط التمايز التي اتسم بها فكر دانييل بن سعيد، إذا ما قُورن بموقف رفاقه في أوساط اليسار الثوري. لم يكتف الراحل بالموقف المبدئي المناصر لحق الشعب الفلسطيني، بل كان يعتبر إسرائيل كياناً عنصرياً لا ينبغي الاعتراف به.
بالنسبة إليه، كان مآل «الأبارتايد» (نظام التمييز العنصري) الإسرائيلي الحتمي هو الانهيار، على غرار ما حدث في جنوب أفريقيا. وبالتالي، فإن الحل الوحيد بالنسبة إلى اليهود الإسرائيليين هو القبول بدولة واحدة تحكمها الأغلبية الفلسطينية، على أن تكون دولة غير قائمة على أُسس عرقية أو دينية، بحيث تكفل لهم حقوقهم كأقليات يهودية.
هذا الموقف الراديكالي ألّب «أصدقاء إسرائيل» من المثقفين الفرنسيين المتصهينين على دانييل بن سعيد. في مقدمة هؤلاء برنار هنري ليفي الذي دخل معه بن سعيد في جدال محتدم، وخصّه بكتاب مدوّ سمّاه «برنار هنري ليفي: فقيه آخر زمن» (2008)، فضح فيه مطبّات الفكر الصهيوني الغربي الذي يحاول التخفي وراء لبوس اليسارية والعلمانية، للتستر على العنصرية الدينية والعرقية لدولة إسرائيل.

موقفه الراديكالي ألّب عليه «اليسار» الفرنسي المتصهين


على غرار «المؤرخين الجدد» في إسرائيل، تصدّى دانييل بن سعيد لأكذوبة «الشعب اليهودي» الذي تزعم الدعاية الصهيونية أن إسرائيل تأسست لتكون «حاضنة أخلاقية» له. في كتابه «حكايات وأساطير الحرب الأخلاقية» (1999)، أوضح بن سعيد الذي ينحدر من عائلة يهودية عربية من وهران، أنّ اليهود كانوا على امتداد تاريخهم فسيفساء من الأقليات المنتمية إلى شعوب وفضاءات جغرافية ولغوية متباعدة. بالتالي لا وجود لـ«شعب يهودي» بالمفهوم التاريخي، لأن الشتات اليهودي عبر العالم، على امتداد تاريخ عمره أكثر من ألفي سنة، لم يحدث أن انتمى إلى أصل عرقي أو لغوي واحد.
حتى المعطى الديني، في حد ذاته، لا يشكل قاسماً مشتركاً بين جميع اليهود، يضيف بن سعيد، مذكراً بأنّ الحركة الصهيونية كانت أساساً حركة سياسية علمانية، لكنّها وظّفت البُعد الديني لمنح إسرائيل شرعية أخلاقية، بوصفها حامية «الشعب اليهودي»، مستغلّة بذلك الجرح الغائر الذي خلّفته المحرقة النازية في الضمير الإنساني العالمي.
يرى بن سعيد أن هذا المنزلق الفكري أفرز «ثيولوجيا» يهودية من نوع جديد تسعى إلى تكريس فوقية «الشعب اليهودي» من منطلق ديني، مع أنّ أغلبية أقطابها غير متديّنين، ما أفضى إلى إقامة «أبارتايد» إسرائيلي يسمح لكل من يزعم بأن له أصولاً يهودية بـ«العودة» إلى إسرائيل، بحجّة أنها أرض موعودة لـ«الشعب اليهودي» منذ 2000 سنة. فيما يُحرَم اللاجئون الفلسطينيون من حق العودة، مع أنّهم هُجِّروا من أرضهم منذ أقل من 60 سنة!