صاحبة «القيثارة» الجزائرية متى نعيد اكتشافها؟ الجزائر ـ سعيد خطيبي
حين أصدرت صافية كتو (1944 ــ 1989) مجموعتها الشعرية «صديقتي القيثارة» (1979)، تنبّأت لها الصحافة الجزائرية بمسيرة متميّزة. وحين أصدرت مجموعتها القصصية «الكوكب البنفسجي» (1983) انتفضت ضدها، وحاولت التقليل من شأنها... وحين توفيت بطريقة تراجيدية، التزم الجميع الصمت، ليحلّق سؤال واحد: هل مصير الشعراء الانتحار؟
يوم حلّت صافية كتو في الجزائر العاصمة، قادمةً من عمق الصحراء عام 1969، لم يكن يراود ذهنها سوى صورة إيزابيل إيبرهارت (1877 ــــ 1904). هذه الرحّالة التي ظنّها بعضهم ابنةً سريّة للشاعر الفرنسي آرتور رامبو، طلّقت صقيع أوروبا وأرخت آلام ظلال الواحات، وثارت على تقاليد مجتمعها وعصرها. كانت صافية تؤمن بقناعات إيبرهارت، لكنها لم تعرف أن القدر سيجمع بينهما في نهاية مفجعة واحدةتلقت زهرة رابحي (اسمها الحقيقي) تعليمها على أيدي إحدى البعثات التبشيرية المسيحية في عين الصفراء (700 كيلومتر جنوب غرب الجزائر العاصمة). كان والدها يحلم برؤيتها طبيبة أو مدرّسة. لكن زهرة الصغيرة لم تكن تحلم سوى بشقّ سبل التحرر، وإطلاق العنان لذاتها، والبوح بالمكبوتات وفضح هموم جيل النسوة اللواتي عاصرتهنّ. شغلت وظائف عدّة بين التعليم والإدارة، قبل أن تلتحق بالصحافة عام 1973. باشرت مهامها في وكالة الأنباء الجزائرية، وتدرّجت قبل أن تبلغ قسم التحقيقات الصحافية. خلال الثمانينيات، اشتهرت بمساهماتها في عدد من الصحف والمجلات، مثل Algérie-Actualités ،Révolution Africaine ،Afrique Asie... لقد جاء خيار مهنة الصحافة كي يقرب زهرة أكثر من فضاءات الأدب، وشغف المطالعة، ولذة الكتابة التي تعتبرها «هروباً من اليأس».
في عام 1979، أصدرت زهرة باكورتها الشعرية «صديقتي القيثارة»، وتبنّت اسماً مستعاراً هو صافية كتو. كشفت مجموعتها تلك حساسيةً جديدةً في التجربة الشعرية الجزائرية، تنأى عن الأسئلة الإيديولوجية المبتذلة، ولعبة اللغة الساعية إلى إبهار المتلقي، مفضلة كتابة تدنو أكثر من السرديّة الشعرية. افتتحت ذلك الديوان ببيان عرفان لروح الشاعر التشيلي بابلو نيرودا الذي خاطبته قائلة: «بابلوا! أنت هنا/ صوتك يرقد في أعماق الذاكرة/ بابلو! أنت حيّ/ روحك تحلق في شوارع كونسبسيون/ المغسولة دماً»... قبل أن تعود إلى الجذور ـــــ هي المزدوجة الثقافة واللغة ـــــ وتستأنف علاقتها الخاصة بقيس بن الملّوح. لقد كتبت في «برقية إلى قيس»: «أبجل غباوتك يا قيس/ والصحراء التي عزّتك/ وأشعارك التي صاحت في الصمت/ وأرجفت القبة الزرقاء/ (...) وحدها ليلى... وللأبد فتنتك/ أقدس جنونك يا قيس». ثم تضيف بعض هذيانها، وتكتب في «اختلال الذاكرة»: «هل حدث هذا في الجزائر أم في لندن؟/ هل حدث في الصيف أم في الشتاء؟/ هل حدث هذا في جزيرة صفراء محاطة بالأزرق؟/ هل حدث هذا في واحة خضراء محاطة بالأصفر؟/ لست أدري... لست أدري/ ذكرياتي اضطربت في أحلامي».
صاحبة الذاكرة المضطربة والمرأة الباحثة عن خلاص، لقي إصدارها الأول ترحيباً واسعاً في الجزائر. وبعد أربع سنوات، عادت صافية كتو بمجموعة قصصية هي «الكوكب البنفسجي»، استطاعت خلخلة بعض القناعات الملازمة للحركة الأدبية في جزائر الثمانينيات، مثل تمجيد مفاهيم الاشتراكية والثورة الزراعية، وتكريس البنية

انفردت بتأسيس تيار «كتابة الخيال العلمي» في الأدب المغاربي، وجددت مفهوم الدفاع عن القضايا النسوية

السياسية القائمة. تضمن «الكوكب البنفسجي» محاولة للكشف عن هموم أدبية جديدة، إذ انفردت بتأسيس تيار «كتابة الخيال العلمي» في الأدب المغاربي عامةً، من خلال نصوص كـ«القمر يحترق» و«فيكا، المراسلة الفضائية». كما جددت مفهوم الدفاع عن القضايا النسوية عبر نص «سفيرات الحرية»، حيث تحكي نهاية أحد المسؤولين في نظام سياسي فاسد (يقترب في مكوناته من النظام الجزائري) على يد امرأة تدعى ليندة. وكان أن مرّ «الكوكب البنفسجي» وسط حالة تعتيم معلنة، ورأى أحد النقّاد آنذاك، أن «الكاتبة واقعة تحت تأثير الأحلام»... عاشت صافية كتو تحلم بجزائر مختلفة. وحين بادرت السلطات الجزائرية في منتصف الثمانينيات، إلى شراء حقوق نشر أعمال كتاب جزائريين صادرة عن دور نشر أجنبية، قامت بالمسعى ذاته مع أعمال رشيد بوجدرة ومالك حداد ومولود معمري وغيرهم... إلا أعمال صافية كتو بقيت بعيدة عن القارئ الجزائري. وظلّت الكاتبة تعيش منفيّة داخل وطنها.
في 29 كانون الثاني (يناير) 1989، ذكرت تقارير الشرطة عن أحد الشهود، أنّه رأى امرأة تنزل من سيارة أجرة عند الثامنة صباحاً، دفعت للسائق أجرته، ثمّ انحنت يمنةً، سارت بضع خطوات وقفزت من أعلى جسر تيليملي في وسط الجزائر العاصمة. لماذا انتحرت صافية كتو؟ كيف تركت أصدقاءها ـــــ أمثال الطاهر جاووت الذي سيسقط لاحقاً برصاص المتطرّفين ـــــ ينتظرون مسرحيتها «أسما»؟ وماذا عن روايتها التي قالت «إنها تغوص في الجانب السيكولوجي من حياة الفرد»؟ هل سنقرأ يوماً تلك الرواية التي ترفض عائلتها، حتّى الساعة، الكشف عن أوراقها؟