حسين بن حمزة يكتب فادي طفيلي الشعر من دون أن يُرينا سعيه إلى ذلك. كأنّ الشعر يتحقّق بحسب مبدأ خفيّ. هناك حيادية شبه كاملة في هذه الكتابة التي يُكتم فيها صخب المفردات والاستعارات، وتُبْطَئ فيها حركة الجمل، بحيث نصدّق أن الشاعر يُدير ظهره لما يحدث، واثقاً بأن المعنى سيتوالد من تلقائه. ما نقرأه في مجموعة «شجرة بيضاء تحاول الطيران» (دار الساقي)، وهي الثالثة له بعد «أو أكثر» و»هل جرحت يدك؟ هل جرحت خدك؟»، يُحسّسنا فيه فادي طفيلي بتقنيات الطبيعة الصامتة في عالم الرسم. بل يذهب أبعد من ذلك، فيقترب من مناخات التصوير الفوتوغرافي التي يُلتقطُ فيها المشهد معزولاً عن جَلَبَته وانسيابه الواقعي. لنقرأ: «غيومٌ متفرقةٌ بوداعٍ ضبابي/ هكذا يقترب الصيف/ ويتقدم في أحشاء السّهل الممدّد باستسلام». ثمة مذاقٌ ماغريتي مدسوسٌ في خلفية الكتابة، حيث «الأوراق المدهوسة تحت الأقدام وحوافر الخيول البلجيكية الضخمة/ تبقى مطبوعة في الأمكنة حيث دُهستْ/ مطبوعةً كذكرى لأيام الصَّحو/ كسِيَرٍ متفرّقة لأشجارٍ عصفت بها الرياح».
هناك ترجمات متنوعة لفكرة الحياد اللغوي. أغلب القصائد تبدأ بجملة إخبارية لا يحضر فيها الشاعر نفسه. في قصيدة «الأرغن»، نقرأ: «خشبُ الكنيسة يضجُّ ببهجة الحشرات ووشوشاتها/ في فضاء الهيكل البارد صلاةُ التهام الزمن والخشب/ تسلِّمُ المقاعدُ روحَها للسوس والبقّ/ الأُرغن يتنفس بصعوبة في المساحة المتصاعدة/ الأرغن يلفظ هواءً مداوماً يصلُ أعلى البرج بالطوابق السفلية للقبور/ تحته زوجةُ رامبرنت/ مهرّجُ القصر/ تاجرُ العبيد والسكَّر/ ومزيجٌ من كهنةٍ كاثوليك وقساوسة بروتستانت/ في قبضةٍ واحدة من الصقيع والرّخام».

بمنأى عن أيّ ميوعة عاطفية أو حماسة بلاغية

لا نجد هنا ميوعة عاطفية أو حماسةً بلاغية أو استبسالاً في تشعير الكلمات. المطلوب من الشعر أن يُنجز بعيداً عن الحِيَل والإطراءات الأسلوبية التي أُفرطَ في استعمالها. في بعض القصائد، يظهر الشاعر بضمير المتكلم، أو يتسرّب حدثٌ ما أو أشخاصٌ آخرون إلى مساحة القصيدة، ولكنّ النبرة المتأملة والحيادية لا تتغير تقريباً. تدخل امرأةٌ إلى قصيدة «جهة أخرى»، ولكنها لا تحضر معها عتاد الحب ومفرداته، بل تتقاسم العوالم والمناخات ذاتها مع الشاعر: «دمُ عشب الليل يبللُ لحاءَ الشجر/ ندخل ولا نلقي التحية على العصافير/ وأظننا دهسنا عنكبوتاً أسود كان في طريقه إلى طريدته النملة/ وأدركَتْنَا تأوهاتُ جذعٍ شُقَّ منذ يوم/ فرقعاتُ الحصى كانت توحي بما أصاب الزمن من كسور/ وكان بستاننا أخرسَ/ من صدمة عاصفةٍ عبرت». في قصيدة «غراب»، نقرأ: «ثمة موجٌ صغيرٌ يكاد لا يُرى يحرِّك النهر من داخله». لعل هذه الصورة تصلح تعريفاً للشعر المكتوب في المجموعة.