خصّنا محمد بنّيس بمساهمته في مؤتمر «ترجمة الشعر» الذي نظّمته جامعة جيرمسهايم في ألمانيا بين 15 و18 الجاري
محمد بنيس *
تمثّل الترجمة في عصرنا الحديث ما هو أعمق من فضول المعرفة. وهي بالتأكيد أبعد أيضاً من الرغبة في نقل عمل من لغة إلى أخرى. إنها، قبل كل شيء، تعبير عن رمزية الضيافة في الثقافات وبين الثقافات، بما هي انفتاح على الآخر، إنصات إليه وحوار معه. وتصبح الرمزية شديدة الوضوح في حالة الترجمة من لغات أوروبية إلى العربية ومن العربية إلى لغات أوروبية. إنها الرمزية التي تبحث عن زمن آخر، مختلف وحرّ، للعلاقة بين ثقافتين، لكل منهما دور في بناء الثقافة الإنسانية. لكنها علاقة صعبة في تاريخنا المعاصر، يحكمها متخيّل مريض.
وما يدعو إلى الفرح أنّنا نلتقي، مرة أخرى، حول ترجمة الشعر بين لغتينا، العربية والألمانية. فالشعر يبقى بداية الكلام في كل من الثقافتين. وهو لا يزال مستودع أسرار كبرى، ينقلنا إلى المفاجئ بقدر ما يدلنا على المجهول فينا وفي حياتنا الإنسانية والطبيعية على السواء. ونحن نريد، بهذا اللقاء، تأكيد فاعلية الشعر في صياغة متخيّل ينادي على الجميل والمجهول واللانهائي. ثم إن عملنا، شعراء ومترجمين ونقاداً، يأخذ معناه من نظرتنا المشتركة إلى مركزية الترجمة في بناء صورة يمكن أن تحرر حواسنا من المتخيّل المريض الذي يمنع كلا الطرفين من الانخراط في مستقبل، مقبل دائماً من المستقبل. ومن ثم فإن لقاءنا، اليوم، يدل على نجاح سلسلة لقاءاتنا، التي تجدد تاريخ اللقاء، الذي بدأ مع غوته بين الشعرين، ولا ينبغي أن ينتهي. لذلك، فانخراطنا في المستقبل هو التزام وإيمان بالمستقبل. أي إن اللقاء يأتي في سياق مقاومة كل نظرة مغلقة، مهما كان مصدرها، فيما هو سفر لا يتوقف على طريق الصداقة، أعلى مستويات المحبة، كما يقول نيتشه.
كان للقاء بين الشعرين، الألماني والعربي، تأثير لا نراه دائماً في الثقافتين. ولا شك في أنّ بروز تأثير الشعر العربي في الثقافة الألمانية يظل محدوداً بالمقارنة مع التأثير الغني للشعر الألماني، الذي تحقق ولا يتوقف في الثقافة العربية الحديثة. لسنا هنا من أجل المقارنات، بسبب الزمنين المختلفين لأوضاعنا التاريخية والثقافية، لكننا ندرك أن ما نقصده من اللقاء بين الشعرين، وباتجاه اللغتين، هو الضيافة المتبادلة، من الألمانية إلى العربية ومن العربية إلى الألمانية. ضيافة تؤكد أنّ القصيدة الحديثة، منذ دانتي حتى اليوم، هي قصيدة تستقبل الغريب الذي يأتي من ثقافات أخرى، يرج صفاء الهويات، يفكك منطقها القائم على الانغلاق، ويغيّر قيم القصيدة.
ضيافة القصيدة وقيم القصيدة في زمن هو زمن العولمة. لا ننسى أن هذا الظرف متعارض مع الشعر ومعترض عليه. لهذا فإن عملنا على ترجمة الشعرين مقاومة مضاعفة، مقاومة لمتخيل يغلق أبواب اللقاء بين الثقافتين العربية والأوروبية، ومقاومة لزمن العولمة الذي يعطي الامتياز للنافع، بمعنى الربح المادي، المضمون والفوري، الذي توجد القصيدة على هامشه، بل هي نقيضه.
لكن ما حدود المقاومة؟ إن الجهر بالإيمان ليس كافياً. ويظهر السؤال أنّ للترجمة شروطاً وأنّ أغلب هذه الشروط غير متوافر في الترجمة المتبادلة بين الشعرين الألماني والعربي. سأقتصر، هنا، على شرط واحد هو المعرفة باللغتين. لا يمكن أن ننسى، إن نحن اقتصرنا على اللغة وحدها، أن أغلب ترجمات الشعر الألماني إلى العربية تمت عبر لغات وسيطة، في مقدّمها الفرنسية والإنجليزية، مثلما تمت ترجمات للشعر العربي عبر اللغتين الوسيطتين ذاتهما، الفرنسية والإنكليزية. إن عائق المعرفة باللغتين لا يمكن أن يعثر على حل فوري، مهما حاولنا الإسراع في تجاوز التخلف التاريخي للثقافة العربية من ناحية، والمتخيل الألماني البعيد عن الثقافة العربية ولغتها من ناحية ثانية.
عائق يضع المقاومة نفسها موضع سؤال، لأنه يضع ترجمة الشعر عبر لغة وسيطة موضع السؤال. لقد وجدت نفسي، في السنة الماضية، أمام ترجمة مختارات موسعة من شعر هلدرلين إلى العربية عبر ترجمة إنكليزية لكل من الإنكليزيين مايكل هامبورغر Michael Hamburger وديفيد كونستانتين David Constantine والأميركي ريتشارد سيبرث Richard Sieburth. وعندما اطّلعت عليها، وقارنت بينها وبين ترجمات فرنسية، تيقّنت أنها جيدة. ثم قارنت بينها وبين ترجمة لبعض قصائد هلدرلين من الألمانية إلى العربية، قام بها فؤاد رفقة سنة 1974، فوجدت أن الترجمة التي تمت من الألمانية مباشرة، كثيرة الأخطاء وغير مستساغة في العربية. لذلك اعتبرت هذه الترجمة الجديدة لحسن حلمي، عبر لغة وسيطة، حدثاً ثقافياً تعرفه العربية. لكنّ انتصاري لهذه الترجمة أثار جدلاً يخصّ اللغة الوسيطة في الترجمة الشعرية إلى العربية.
هي مسألة نظرية، حقاً. من حظنا أننا نلتقي في حلقة للترجمة تشارك فيها أطراف متعددة، هي المترجمون والشعراء والنقاد. ورغم أن الترجمة الأساس تتم مباشرة من الألمانية إلى العربية،

ترجمة الشعر مقاومة في زمن العولمة

فإن السؤال يظل قائماً، ما دامت الترجمة لا تتم من طرف واحد، ولا على يد شخص واحد هو المترجم. هذه الحلقة تدخل بالأحرى ضمن منظور جديد للترجمة الشعرية. وقد تعرفت عليه أول مرة في روايومون في فرنسا، عندما اشتغلت مع مترجمين وشعراء ونقاد على ترجمة بعض قصائدي إلى كلّ من الفرنسية والإسبانية. تجربة روايومون يمكن أن نسميها مدرسة، بمعنى اتجاه له أسسه النظرية، وقد كان برنار نويل واضع هذه الأسس والعامل في حلقاتها لسنوات. وهي التجربة ذاتها التي تكررت معي في بلدان أخرى، هولندا وإسبانيا والبرتغال.
أقصد من ذلك أن لقاءنا اليوم حلقة ضمن حلقات. ولا شك في أنّ الترجمة التي تمت لقصائد من العربية إلى الألمانية وصلت إلى الألمانية، وهي بالتالي نجحت في المحافظة على السري في القصيدة، أي على الصدمة التي من دونها ينتفي الشعر. إنها ترجمة جماعية، تتم في صيغتها الأولى عبر اللغة المباشرة، لكنها تتعرض للتصفية أثناء الحوار الجماعي الذي ينشأ بخصوصها.
لن نخوض في الجوانب النظرية لترجمة الشعر وحدودها. يعنينا أولاً أن عملنا مشروط بتاريخيته مثلما يتجاوب مع التزامنا وإيماننا بالمستقبل. إنه برأيي ما يشجع على المضي في تجربة تترك الحوار بين الشعرين العربي والألماني ممكناً، والضيافة ممكنة.

* شاعر وناقد ومترجم مغربي. العنوان الأصلي للمداخلة هو «الترجمة والضيافة»