strong>«رجال» يجالسون فراغهم بين ماغريت وآندي وراهوللقد انسحبت من لوحتها أخيراً، لترصد أحوال الذكورة وتجليّاتها، بأسلوب عابر للاتجاهات والمدارس. في معرضها العاشر الذي تستضيفه حاليّاً «غاليري جانين ربيز» (بيروت)، تجمع الفنّانة اللبنانيّة بين الأسطورة والدين والراهن السياسي الحارق. أيقوناتها المعاصرة تحكي خلل العالم

بيار أبي صعب
الهوّة المستترة في أعمال ريم الجندي (١٩٦٥)، تكاد تختصر تجربتها. كأنّها تخفي عنّا حكاية موجعة. لوحتها لغز مثلما الحياة التي ترويها «عابرةً بين الحلم والخيبة»، حسب تقديم معرضها الحالي «رجال» في «غاليري جانين ربيز». إنّها لوحة مزروعة بالأسرار، مشحونة بكثافة دراميّة خاصة، مسكونة بإشارات ورموز تجعل منها منجماً لعلم النفس التحليلي.
هناك شيء ما في هذه اللوحة لا يقال. «الشيء» كامن خلف السطح الهادئ والمرتّب، المنمّق والأنيق، الذي ينضح بحيويّة الألوان، وديناميّة الأجساد والتشكيلات، ونورانيّة المشهد، وصرامة التقطيع السينوغرافي للفضاء... في مرحلة أولى تأسرك حدّة التصوير المتأرجح بين واقعيّة قصوى وسرياليّة وبوب آرت، بين ماغريت (لوحة «المخطوط») وآندي وراهول («عزيزي آندي»). تطرب عينك للزخرفات الشرقيّة والنقشات المختلفة، ناهيك بالإحالات المباشرة إلى فنّ الأيقونة البيزنطيّة، أو إلى مراجع دينيّة وأسطوريّة تختصر الأزمنة، وتزاوج بين علامات من العصر الحديث وأخرى من ذاكرة ثقافيّة بعيدة.
لعلّ الموضوع الرئيسي لمعرضها الجديد ليس الذكورة... بل السقوط!
لكنّ ريبة تنتابك، عاجلاً أو آجلاً، بأن «في هذا العالم خللاً ما»، كما يكتب بريشت في «روح سيتشوان الطيّبة». تقع تحت تأثير التكرار المهووس للموتيفات والأشكال، ويطأ على صدرك عالم «ذكوري» متأرجح بين قسوة وعذوبة، يتسرّب منه صراخ أصمّ. تحاصرك تلك النظرات المشبوهة ويصفعك الاختلال في قواعد المنظور. وتستهجن الخفّة الساذجة لحظة الفاجعة. لا بد من أن تصيبك عدوى العنف المدسوس بمهارة ملتبسة تبلغ حدّ التنزيه. ستختلط عليك الأمور حتماً، وتتوقّف مليّاً عند تلك الثنائيّة المقلقة التي تجعل لكل رجل طيفه، أو ظلّه، أو «قرينته».
كل شخصيّة ذكوريّة هنا، تجالس فراغها، تتمرّن على ترويض غيابها وامّحائها، كما في لوحة «الكنبة الحمراء» التي تماهى في أعلاها شمس وقمر ذهبيّان. ريم الجندي التي رسمت نفسها وعالمها الحميم في «مواعيد زيارة بينيلوب» (٢٠٠١)، و«أشياء بسيطة» (٢٠٠٣)، و«طريق المطار» (٢٠٠٨)، خرجت هذه المرّة، في معرضها الفردي العاشر، من حقل الرؤية، لتترك بصماتها على القماشة. رسمت نظرتها إلى «الرجل» الذي يثير مشاعر الرغبة، والاشمئزاز، والطمأنينة، والضعف، والخوف، والحنان، والشفقة، والقرف، واللامبالاة، والفضول، إلخبين الشاب الأنيق المشتهى الذي تحيط به ملائكة الرغبة النسائيّة (Beautiful One)، والرجل الخارق الذي يستقبلنا عند باب المعرض (Superman)، نعبر بشتّى احتمالات الرجولة وتجلّياتها: الملاكم والصيّاد والمصارع، العسكري ورجل الدين والميليشيوي، والحشود الغاضبة التي يظلّلها «بعل» شفيع الذكورة المطلقة، رجال المافيا الطالعين من فيلم قديم بربطات عنقهم والقمصان البيضاء المنشّاة، وخلفهم لقطة من السماء لكورنيش البحر في بيروت. وفي المقابل هناك الأب الرؤوم الذي يحمي ابنه من الخطر الداهم، والمتنزّه الحالم عند «بحر بيروت»، والحبيب النائم الذي يسهر عليه الملاك السداسي الأجنحة، والشاب المطالب بالحريّة في شوارع طهران بعدما وقع في قبضة القمع، فبدا كأنّه جان بول مارا القتيل في لوحة دافيد، أو عيسى الناصري بعد إنزاله عن الصليب (Twitter). و«في تلك الأثناء» رجل ممدد على رصيف المدينة المقسّمة إلى شوارع وأحياء متناحرة، فيما كابوس ٧ أيّار/ مايو يحوم في الجوار.
تلجأ الفنانة إلى الألوان الزهيّة والصارخة، أكريليك على القماش كالعادة، مع تقنيات مختلفة، أبرزها وريقات الذهب التي تستعمل في الأيقونات. تصنع بها زهرة هنا، وشعلة هناك، ودوائر أعلى اللوحة تستعيد وجهاً أو تفصيلاً تسامى عن سياقه. ذلك أن ريم تختبئ في هوامش لوحتها وتفاصيلها الصغيرة. كلب الدبرمان المكرّر إلى ما لا نهاية لتجسيد الخطر، الحيوانات البريّة كما رسمت على جدران الكهوف، وأيضاً آلهة وأساطير وملائكة. «تانيت» ربّة الخصوبة الفينيقيّة تظلّل رجل الدين الشيعي وقرينه على خلفيّة حمراء. «بعل» يعلو الرجال الغاضبين. الملاك «ساروفيم» بأجنحته المزروعة عيوناً، يحرس النائم. «البُراق» بألوانه الشرقيّة الحارة، في حالة ارتقاء تصاعدي أعلى لوحة يسكنها رجال بقبعات ماغريتيّة، بالأزرق على خلفيّة قاتمة، يعومون في الهلام على دراجاتهم.
للاقتراب من سرّ اللوحة عند ريم الجندي، علينا أن نبدأ من الخلفيّة التي تجمع بين زخرفات البوب والمنمنمات والأيقونات. موتيفات تنقشها الفنّانة بصبر، لعلّه سلاحها الأخير بوجه اليأس. تكررها بإيقاعات صوفيّة، إلى ما لا نهاية. تخلق مستوى آخر للمشهد... لنتأمّل «أحد السكّان» يتهاوى من أعلى عمارة بيروتيّة، فإذا بستائر الشرفات خلفه تستحيل نقوشاً تزيينيّة. أما حارس المرمى الألماني أوليفر كان، فمعلّق في الفراغ أيضاً. لقد أخطأ الكرة، وخلفه «بناية الأشرفيّة» تخترقها النقط. لعلّ الموضوع الرئيسي لمعرض ريم الجندي الجديد ليس الذكورة... بل السقوط!


حتى ٢٨ كانون الثاني (يناير) ــــ «غاليري جانين ربيز» (الروشة/ بيروت) ــــ 01/290868
www.galeriejaninerubeiz.com