الترجمة عملية مستقلّة عن اللغات، تقوم أساساً على «التأويل»، بحسب مقولة أساسيّة يقوم عليها كتاب لودورير وسيليسكوفيتش الذي عرّبته فايزة القاسم أخيراً... أما العثور على قصد المؤلف، فمسؤوليّة المترجم الذي يدخل في مواجهة مفتوحة مع اللغة
نوال العلي
كانت مجلة Lire الفرنسية أصدرت في عدد شباط (فبراير) 1997 ملفاً مثيراً بعنوان «هل ينبغي إعادة ترجمة كل شيء؟». استهلت المجلة الملف بتساؤلات حول أهم الترجمات التي قدمت إلى الفرنسية. فماذا يقال عن أندريه جيد الذي نقل دوستويفسكي من دون أن يعرف كلمة روسية واحدة؟ وبماذا نفسر وجود 36 نسخة من ترجمات الإنياذة؟ والأطرف أنّ نيرفال نقل إلى الفرنسية أجمل ترجمة لرائعة غوته «فاوست» وهو لا يعرف من الألمانية سوى بضعة قواعد أساسية. وقد تكبد نيرفال مدفوعاً بشهوة المعرفة عناء نقل «فاوست» إلى لغته الأم، كلمة كلمة. معتمداً على القاموس. وكذلك فعل بودلير لدى افتتانه بأعمال إدغار آلان بو الذي عثر فيه كما يقول بودلير نفسه على نظيره بالإنكليزية.
نعثر على اجتهادات قد تجيب عن تساؤلات حول قضية الترجمة، ما لها وما عليها، في كتاب «التأويل سبيلاً إلى الترجمة» الذي صدر عام 1984 لمؤلفيته ماريان لودورير ودانيكا سيليسكوفيتش، الأستاذتين في «المدرسة العليا للمترجمين الفوريّين والمترجمين» في باريس. وها هو يجد طريقه أخيراً إلى المكتبة العربية بفضل مترجمته فايزة القاسم (المنظمة العربية للترجمة).
يتضمن الكتاب مجموعة مقالات تستند إلى مبدأ رئيس يقضي بأنّ «عملية الترجمة تظل هي نفسها أياً كانت اللغات أو نوع النصوص. فالانتقال من نص ما إلى فكر منعتق من اللفظ، ومنه إلى نص آخر، هو عملية مستقلة عن اللغات. وهي لا تختلف عن عملية القول، أو فهم الكلام، في فعل التواصل الأحادي اللغة».
وقد صنفت الكاتبتان هذه المقالات في فصلين: تناول الأول ماهية الترجمة، ونظريات المعنى، ومستويات الترجمة، وعلاقة كل ذلك بالتأويل، فيما تعلق الفصل الثاني بالترجمة والكلام وآلياته، كما تُرى من خلال الترجمة. وتطرقت الباحثتان أيضاً إلى الترجمة الشفهية والآليات السيكولوجية في اختيار الكلمات.
تحوّل «الشاذ» مِثلياً في «عمارة يعقوبيان» الفرنسيّة
وتورد فايزة القاسم، وهي أيضاً أستاذة الترجمة في مدرسة باريس، في مقدمة الكتاب، مثالاً معاصراً على ضرورات التأويل في الترجمة. حين نقل الكاتب جيل غوتييه رواية علاء الأسواني «عمارة يعقوبيان» إلى الفرنسية، لم يستعمل كلمة «شاذ» للاشارة إلى المثليين، لما تحمله من «دلالات ضمنية أخلاقية تكفي لإدانة المعنيين بها فضلاً عن أنها تحمل مفهوم الانحراف والفساد لدى نقلها إلى الفرنسية». وردّ الأسواني على غوتييه بأنّ «شاذ» ما هي إلاّ كلمة متداولة، ومتعارف عليها أكثر من التعبير المسستحدث «المثليون جنسياً». لكن غوتييه اعتمد التعبير الأخير لأنه الأقرب إلى تأويل المعنى في الفرنسية.
وهنا تعامل غوتييه من منطلق الحرص على نقل نية المؤلف وهو يكتب. وغالباً ما يكون التأويل معنياً بالنصوص الأدبية أو الفلسفية، أو حتى بنقل اللغة المحكية وما إلى ذلك. إذ أنّ هناك، معنى افتراضياً ومعنى حقيقياً في اللغة وتقع على عاتق المترجم مهمة العثور على قصد المؤلف، كما تشير لودورير. والمترجم ــــ وهو في طريقه إلى إنجاز هذه المهمة ــــ أقرب إلى مغامر تعترض طريقه العقبات ليجد نفسه في مواجهة مع اللغة.
الترجمة، على العكس من تلك الفورية، تنقل نصوصاً معاصرة لا بد من أن يظهر فيها الإدراك للمعنى عبر العصور، وما جرى عليه خلال تحول الثقافات وتعاقب الحضارات. بعد ذلك، يمر الكلام في عملية معقدة، وهي أن يعود ليصبح فكراً ثم يغدو كلاماً من جديد لكن بلغة أخرى. وفي هذه الحالة، لا بد للمترجم من أن يكف عن اللجوء إلى مقارنات لغوية يمكن لأي طفل يتكلّم لغتين أن يجريها بلا عناء كبير. المسألة أنه سينتقل من الكلام إلى الخطاب بكل ما تتضمنه كلمة خطاب من خلفيات معرفية ضخمة. والانتباه إلى أن موضوع الترجمة هو النص وليس اللغة.
ترى دانيكا سيليسكوفيتش أننا ننزع إلى «الكلام عن الترجمة بالمفرد كما لو كانت هناك طريقة واحدة للعبور من لغة إلى أخرى، إلا أنه ليست هناك ترجمة واحدة بل إنها تتنوع بحسب الموضوع الذي ترتبط بنقله». وتخلص المترجمة إلى أنّ هناك مستويات للترجمة بقدر ما توجد مستويات للغة. وسوف تتغير الترجمة تبعاً للمهمة التي أوكلت إليها، فثمة إنجاز للترجمة على مستوى اللغة وآخر على مستوى الخطاب الذي يتضمن المكملات المعرفية التي تحول الدلالات إلى معنى.
وهنا، نستحضر مقولة مالارميه «إن عدم اكتمال اللغات يتمثل في تعددها، وتنقصها اللغة الأسمى: حيث التفكير هو الكتابة من دون كماليات». وفي هذه الحالة، يكون التفكير هو اللغة الحقيقية التي تستند إلى التأويل لدى نقلها، ما يجعلنا نتفق تماماً مع الفيلسوف فالتر بنيامين الذي يؤكد أن الأفكار التقليدية عن إعادة إنتاج المعنى في الترجمة، لم تعد ذات فائدة (عن مقال مهمة المترجم لبنيامين)... فالكلمات لها تداعيات عاطفية. والنقل الحرفي، وفق بنيامين، يحطّم نظرية إعادة إنتاج المعنى المدرك، ويشكّل تهديداً مباشراً لقابلية الفهم. على أي حال، النصوص العظيمة تحمل ترجمتها بين سطورها، لأنّها قابلة للتأويل، ولأنّها تترك ذلك التأثير الذي لا ينمحي لدى قارئ النص الذي سيكون مترجمه.