محمد خير«يا رضا، اخلص للشيء تجده أمامك، وتقرّب منه شبراً يتقرب منك باعاً، أين الرواية في كل ما هو موجود الآن، أين الرواية؟ وأخذ رضا يبحث معي عن الرواية، أخذنا نعدّ أسماءً للصبح ولا نجد شيئاً، ولما شقّ عليه هذا، قال أعياني البحث يا معلم».
ربما لولا خفة الظل الوافرة في روايةنائل الطوخي «الألفين وستة ـــــ قصة الحرب الكبيرة» (ميريت ـــــ القاهرة)، لشقَّ كثيراً على قارئها متابعة هذا العمل المتحرر من منطق المقدمات والنتائج. بدلاً من ذلك، تتوالد الأحداث بقرار مؤلفها لأنّه أقام عالماً فانتازياً، عبر ثورة هزلية أغرب ما فيها أنها تلامس الواقع بقدر ما تبتعد عنه. كيف يمكن إذاً أن «نحكي» رواية تسخر من فكرة «الحكاية» ذاتها؟
لنقترب من الراوي وهو يقرأ مقطعاً من قصيدة تقول «الحكاية هي بابا، بلا ماما، بلا جدو». المقطع للشاعر عبد العزيز الذي بعث برسالة إلى أصدقائه قبل أن ينتحر، وتركهم إلى الصحراء. وفي غياب الشاعر، تندلع الثورة التي أسهمت فيها كلماته... الثورة التي بدأت لتخليص الرواية من العناصر الدخيلة كالشعر والفلسفة. من أجل رواية غير «خنثى»، قامت الثورة، نحو «الحكاية» ولا شيء غير الحكاية، لكنها كأي ثورة انقلبت على أهدافها. الواقع أن الانقلاب وقع قبل أن تقوم الثورة، فتحولت ـــــ بصورة طبيعية وتآمرية معاً ـــــ إلى ثورة للشعر! تمّ ذلك عبر مسارات معقدة أُرهب خلالها النقاد، وجُنِّدت الكوادر، وغُسلت عقول الجماهير، واستُسلم للقصيدة بوصفها «رحيق الإنسانية». انقلبت الثورة رغم أن الراوي المحرّض كان يتحسّب لذلك، فبدأ يتخيّل زمن ما بعد الثورة، ويضع سيناريوهات كاحتمال محاكمة قادة الثورة على أيدي دور النشر التي سيفلسها انتصار الحكاية.
شخصيّات شبه كلاسيكية في عمل متفلّت
لكن ما لم يتوقعه الراوي، أن الشخص الأكثر مهارة منه في تخيّل المستقبل، كان رضا «ذات يوم ولد رضا، وكانت الدنيا ساقعة، ولد في شهر اتناشر، وكانت أمه تتفرج على التلفزيون وهي مغطاة ببطانيتين، قبل ولادته كانت قد رأت كابوساً في المنام، رأت نفسها تمشي بسرعة في الشارع، كان الشارع مضاءً كله ولكنها لم تكن ترى شيئاً، كانت الأضواء تتعاقب عليها بسرعة وهي تجري، طب مين كانت تجري؟».
هذا المزيج من مستويات اللغة، من الفصحى والعامية، من الجد والهزل، قد يضع القارئ أمام تساؤل هو: هل نحن أمام تمرد على آليات الرواية؟ سخرية منها؟ مجاز ممتد؟ أم محض لعبة نزقة.
مع ذلك، فشخصيات الرواية شبه كلاسيكية (يعرّفنا بتاريخها الشخصي، ورغباتها وخصائصها) فنستطيع التفرقة جيداً بين الراوي (يحمل اسم المؤلف نفسه) والشاعر عبد العزيز ورضا وسيدة: أيقونة الثورة التي لا تخجل من شبقها ولا من جهلها. بل إنّ هاتين الصفتين كانتا سرّ شعبيتها: لنتأملها «أثناء معارك الثورة، بعد اندلاعها بيومين، وفي نوبة من نوبات الهبل التي كانت تنتاب سيدة وتكسبها شعبية غير عادية، زغردت بقوة أمام كاميرا التلفزيون الحكومي: تشكري يا حكومة، تشكري عالبهدلة.. لولاكي ما كناش بقينا هنا». بالطبع، فـ«تصريح» مماثل لا يعبّر وحده عن دورها في الثورة، بل هتافات موزونة كانت ترددها تحت هراوات العساكر: «الرواية رايحة رايحة، القصيدة جاية جاية، رغم أنف المدّعين، رغم أنف البلطجية».