كتب عالم الاجتماع الفرنسي الراحل جان بودريار أن الدعاية التجاريّة تقوم على «أسطرة الواقع وتعميم الوهم». من هذا المنطلق تعالج مجموعة باحثين عرب وأجانب «استراتيجيات التواصل الإشهاري»، كأحد التمثلات الثقافية المرتبطة بالحداثة
خليل صويلح
هل الإعلان مجرد عملية ترويج لسلعة، أم أنه أحد التمثلات الثقافية المرتبطة بمفهوم الحداثة؟ سؤال جوهري يطرحه الناقد المغربي سعيد بنكراد وآخرون في «استراتيجيات التواصل الإشهاري» (دار الحوار ـــــ اللاذقية)، لينفتح على معطيات سيميائية أخرى، تضع الصورة الإعلانية في مرمى التفكيك، وخصوصاً الإعلانات التي تعتمد جسد الأنثى كجسر عبور للترويج.
يرصد أحمد راضي في «الإشهار والتمثلات الثقافية» إعلانات العطور كنموذج للهوس الثقافي التاريخي لموقع المرأة في المجتمع، وفي علاقتها بالرجل. لطالما مثّلت المرأة في المخيلة الجمعية بالنسبة إلى الرجل «تلك الذات المغرية العصية على المعرفة، المنفلتة من العقلانية والفلسفة والعلم» في متواليات شبقية تنتهك الجسد الأنثوي. هكذا يتحوّل جسد المرأة إلى دريئة للتصوير، لا لإعلانات العطور فقط، بل لأدوات التجميل والأحذية وحتى إعلانات السيارات.
من ضفة أخرى، ترصد مارييت جوليان خاصية الإثارة الشمّية في إعلانات العطور، سواء في اختيار شكل القارورة أو اسم العطر، فهما يحيلان إلى معنى شمّي «تذكروا الاسم، فلن تنسوا أبداً أريج العطور». وتالياً، فالاستراتيجية الإشهارية مودعة في الاسم أولاً. وهذا الاسم هو الذي يتحكم في آليات السوق، فالماركة هي من يحقق المفهوم الشمي لدى المستهلك، فضلاً عن شكل القارورة ونوعية التصميم لجهة رمزية الخطوط والأشكال: «فالدائرة تحيل على الليونة والحسية والأنوثة. أما المربع فخشن وجاف وبارد وذكوري». الإعلان إذاً يقوم على الإغراء والإغواء لاستدراج المستهلك من الإشباع النفعي إلى عوالم الاستيهام.
ويلفت بنكراد إلى أن الإشهار يهتم أساساً بتحويل الحاجة النفعية إلى أسلوب حياة أو نمط عيش عبر «سلسلة من الصنائع البلاغية والجمالية التي يجب أن تغطي على الوظيفية لتفتح الباب واسعاً أمام الحلم والانتشاء».
هل يرقى الإشهار إلى مستوى النص الأدبي؟
من جهته، لا يتوانى محمد الولي عن إطلاق عبارة «الإشهار أفيون الشعوب المعاصر»، فهو يجد أنّ الخطاب الإعلاني يعمل على إيقاظ الأهواء والنوازع لدى المستهلك باستثمار ثيمات عاطفية تنتهك وحدته وتقوم على ترويضه واستلابه عبر الخداع. ويرى أن برامج الطبخ مثلاً تضمر خطاباً آخر، هو «عرض البضائع والأواني التي تُستخدم في مطبخ عصري، والتركيز على ماركات الثلاجة والفرن، في أقصى حالات الاستفزاز». لكن هل ينبغي الاستغناء عن الإعلانات؟ ينفي محمد الولي ذلك «ينبغي صناعة الإشهار على نحوٍ آخر، لا يستهتر بالكرامة الإنسانية، على اعتبار أن الإشهاريين مرتزقة فكر لا يعبأون بالقيم الأخلاقية ويكذبون بدون شفقة، فضلاً عن إفسادهم اللغة بإنتاج الخطابات المتملّقة التي تعبث بالأحاسيس والرغبات الدفينة...».
ويتساءل إدريس جبري: هل يرقى الإشهار إلى مستوى النص الأدبي؟ ويجيب بأن الإشهار يتضمن مدلولاً لغوياً وثقافياً، وإن كان المؤلف مجهولاً بالمفهوم الكلاسيكي، ذلك أنّ موقّع الإرسالية متعدد ولا يمكن اختزال خطابه في اسم معيّن، بل في سطوة الكتابة نفسها بوصفها حقيقة واقعية مطلقة. ويقرأ بيار فارو إعلانات المثلجات من زاوية بيع اللذة والارتواء الذاتي بطرق تقنية باهرة تتطلب مواصفات صارمة لجذب المستهلك إلى رغبة مشتهاة.
الإحاطة بأبعاد الانتهاكات الأخلاقية للإشهار تأخذ حيّزاً في اهتمامات الكتاب، إذ يقول فانس بيكار «لدي إحساس بأن عدداً من الممارسات والتقنيات الإعلانية تثير بوضوح مسائل ذات طبيعة أخلاقية... خصوصاً ما يتعلّق بتشجيع ربات البيوت على شراء مواد غذائية بطرق دافعة ولا عقلانية»، وينتهي إلى القول «الإشهار جيفة تواجهنا بالابتسام».
وتذهب آن سوفاجو إلى فضح البعد الإيديولوجي للإعلان بتقديسه الصورة لتعويض «ما هو موجود» بما «هو غير موجود»، بمعنى توظيف سلطة شخصية جديدة ومعتبرة عبر امتلاك المُنتج المبيع في عملية توجيه منظّم للعلامات بهدف تعميم إيديولوجيا الاستهلاك، أو كما يقول رولان بارت «رصد العلامات المطمورة تحت وهم الواقع وإبراز الكامن منها». فالإشهار لا يعتني بالحقيقة، بل بضلال الحقيقة، وفقاً لجان بودريار، وذلك بأسطرة الواقع وتعميم الوهم واللعب على خيال يقترح وضع الخطوط الأولى لتمثيلات جديدة كنموذج مثالي لما نرغب فيه عبر «كلام مجازي يوفر ذخيرة خطية أيقونية هائلة، تحقق الرغبات المخبوءة في أقصى تخوم ذاكرتنا».