أسهمت «إذاعة دمشق» في انطلاقة الرحابنة وفيروز منتصف الخمسينيات... لكنّ أرشيفها النادر بما يضمّه من حفلات فيروز الدمشقيّة، مهدّد اليوم بالتلف والنسيان أو حتّى السرقة

دمشق ــــ سامي رستم
أسى عميق ذاك الذي شعرت به خلال مشاهدتي تسجيلاً باهتاً ومشوّشاً لأغنية فيروز «حبيتك بالصيف» على شاشة «سوريا دراما»، في إحدى فقرات «عين على السينما». هل حالة أرشيف فيروز في التلفزيون السوري مشابهة لنوعية «حبيتك بالصيف»؟ وماذا عن حال التسجيلات الصوتيّة؟ هل تردّت أيضاً بحكم الإهمال؟
أسئلة كثيرة مماثلة عن الأرشيف القديم في «إذاعة دمشق» يطرحها «الفيروزيون»... ولا من يجيب. تتكرر على مسامعنا كثيراً قصة بدايات الأخوين رحباني اللذين احتضنتهما «إذاعة دمشق». هنا كان مثلاً التسجيل الأوّل، بأجهزة متطورة، لأغنية «عتاب». لكنّ العتب الحقيقي يقع على «إذاعة دمشق» التي تكتنز تسجيلات للإنتاج الفيروزي المكثف بين عامي 1952 و1955، بما يزيد على ألف ساعة، ولا تبث منها إلا القليل.
الغريب أنّ إحدى الإذاعات السورية الخاصة حصلت على عدد من أغاني الأرشيف القديم السيّئة الجودة، وبدأت تبثّها في فقراتها الفيروزية، فيما «إذاعة دمشق» لا تحرك ساكناً! ألا يعود حق ملكية هذا الأرشيف إلى الإذاعة الوطنيّة السورية؟ أم أن تلك الكنوز يملكها من لا يعرف قيمتها، فتتحول إلى ما يشبه البضاعة «الأنتيك» التي تُهرّب هنا (مثل الآثار المسروقة في دول أخرى)، وتطبع هناك؟
حين زارت فيروز دمشق، بعد انقطاع طويل، لتقديم «صح النوم» قبل سنتين، كتب على ملصقات المسرحيّة «يخصص ريع الحفلة لمشروع إنشاء مركز ثقافي تاريخي في دمشق القديمة». وأوضحت حنان قصاب حسن، الأمينة العامة للاحتفالية، يومذاك، أنّ المركز سيتولى الحفاظ على أعمال فيروز والأخوين رحباني التي تمتلكها «إذاعة دمشق». وقبل مغادرتها العاصمة السوريّة، تركت فيروز رسالة تقول «دمشق ليست فقط عاصمة ثقافية لهذا العام، بل ستبقى قدوة الفن والثقافة والأصالة لأجيال»...
لكن كيف ذلك ونحن نهمل ذاك التراث من تسجيلات حفلات «مسرح المعرض» (بين 1959 و1976)... إلى حفلات «نادي الضباط» و«دار الكزبري»... قراءة مقالة الفيروزي العتيق المحامي نجاة قصاب حسن عن الحفلة الأولى لفيروز والأخوين رحباني على خشبة «مسرح المعرض الدولي» في أيلول (سبتمبر) عام 1959، قد تداوي حنين كثيرين. كتب في العدد 152 من مجلة «هنا دمشق»: «...فيروز غنّت من دمشق، أولى أغانيها الناجحة الذائعة، وفي دمشق جعلت حفلتها الأولى أغنى الحفلات من حيث الكمية والنوع. فقد غنّت للناس عشرين أغنية، نصفها جديد. بينها واحدة مطلعها: «طرق الهوا عالباب، قلنا حبايبنا، قلنا الحلو اللي غاب، جايي يعاتبنا...» (طرق أصبحت دقّ، إذ تختلف الحفلة الحية عن التسجيل). ويضيف قصاب حسن: «أما الأخوان رحباني، فقد كان

ألف ساعة مسجّلة لا يُبثّ منها إلا القليل

البرنامج كله بمشاهده الخمسة والأربعين من إعدادهما شعراً وموسيقى وتوزيعاً، عدا قطع خمس لفيلمون وهبة... وكان عاصي الرحباني وهو يدير الفرقة الموسيقية يمسك بيده خيوط المسرح كله، لا تفلت منه حركة من حركات الراقصين ولا نبرة من غناء الجوقة»...
أعود بالزمن إلى منتصف الخمسينيات، أرسم صوراً متخيّلة لتلك الآنسة بلباسها المدرسي، يعبر صوتها حدود الخجل والطفولة، تأتي بعد ظهيرة كل سبت برفقة عازف البزق والشاعر الشاب عاصي الرحباني، يُسمعان أعمالهما لمدير البرامج في الإذاعة السورية أحمد العسة، ثمّ يسجلانها الأحد، وكان يوم العطلة أيام الانتداب الفرنسي. أتمنى أن يأتي يوم أقتني فيه مجموعة، غير مهربة أو مسروقة، لأعمال تنوّعت بين الكلاسيكي والمعرب والبدوي والمارشات.
نتذكر هنا مبادرة «دار الأوبرا السوريّة» ـــــ بالتعاون مع الإذاعة السورية ـــــ إلى أرشفة أعمال فنانين سوريين وعرب قبل عامين. هذه الأعمال أعيد إصدارها على أقراص مدمجة مرفقة بكتيّب، تباع حالياً في الدار بأسعار مقبولة. قد يكون تسلّم حنان قصاب حسن منصب إدارة الدار ـــــ وهي الفيروزية من الطرز الأول ـــــ بادرة خير، لعلّها تباشر ورشة توثيق أرشيف فيروز وإعادة إصداره مؤرّخاً وموثّقاً...