يمشي فوق ماء المعنى بحثاً عن كتابة صافيةحسين بن حمزة
«أقصى ما أستطيع حمله/ هو يدي». بهذه القصيدة القصيرة والمشعّة، يبدأ الشاعر العراقي عبد العظيم فنجان ديوانه «أفكّر مثل شجرة» (دار الجمل). كأن هذه القصيدة وُضعت كطُعمٍ في مستهلّ الديوان. نتأمل نبرة النضج والزهد التي تلمع فيها، ونُدهش أن تكون حاضرة بهذا الصفاء في ديوانٍ أول. ثم نكتشف أن الشاعر من مواليد 1955، تأخَّر في نشر باكورته أو أُخِّر في نشرها، إذا شئنا الدقة. الأوضاع الاستثنائية في العراق تعوق معرفتنا بالشعر الجديد الذي يُكتب هناك. معلوماتنا شبه معدومة عن التجارب البارزة حالياً، ولكن ينبغي أن نضيف سبباً آخر وهو لامبالاتنا في زمن الانغلاق والتقوقع، بأغلب ما يأتينا من الخارجنقرأ شعر فنجان، ونجد له صلات وثيقة مع تجارب عراقية أخرى، برعت في كتابة قصيدة النثر داخل مناخات حياتية ولغوية ومعجمية وتخييلية لافتة: أحمد الباقري، عقيل علي، كمال سبتي، علي البزاز. ندقق أكثر، فتنقشع أمامنا مفاجأة أخرى تتمثل في أنّ الأربعة من الناصرية (جنوب العراق)، وأن ظروفاً ومصائر فجائعية صاحبت تجاربهم: مات الباقري شبه مجهول، ونال عقيل علي بعض ما يستحقه من تقدير عقب وفاته مشرداً ومريضاً، وغيَّب الموت سبتي منفياً في قرية هولندية، بينما يواصل البزاز المنفى نفسه في أمستردام. المذاق التراجيدي في سِيَر هؤلاء يذكِّرنا براحلَيْن آخرين: سركون بولص، ورعد عبد القادر. هكذا تكتمل معظم أجزاء تجربة قصيدة النثر العراقية الحديثة.
عبد العظيم فنجان هو سليل التجربة نفسها التي تمثّلت في كتابة النثر بروحية جديدة ومختلفة. لا يُخفي فنجان هذا الانتماء، فيكتب في صفحة الإهداء: «إلى الرائع عقيل علي، وفي حب سركون بولص». وفي الداخل، يُهدي قصيدة إلى الباقري: «لا تسألني كيف ابتنيتَ من القطيعة بيتاً، وكيف شيَّدتَ حوله جدراناً من اليقظة، لأني لبثتُ ماشياً تحت رايةٍ لا ترفُّ بين الرايات، ولا تسقط بسقوط الفارس». ويُهدي أخرى إلى البزاز: «لم تَجْنِ من كتابة الشعر إلا كيف تمحو الكتابة/ .../ أنظرُ إليكَ تترنَّح ثملاً على الشاطئ/ ينبغي رميُ الأحجار كي نصنع دوائرَ/ لكنك ترمي قلبكْ». ويكتب قصيدة بعنوان «أغنية عقيل علي»، وأخرى بعنوان «آخر سركون بولص في العالم». إنه يعلن قرابته الشخصية بأسلوبية أو سلوكٍ شعري يفضِّله على غيره. بالنسبة إليه، الشعراء هم «الناجون من الانحناء إلا لالتقاطِ شمسٍ، أو رفعِ حسرةٍ/ .../ الذين لم يتردّدوا عن المشي فوق المياه، لأنهم مُوكلون بمهمة الغرق».
كأن فنجان يعرِّف الشعر في المقاطع والاستعارات السابقة. ثمة سعيٌ واضح إلى كتابةٍ تخلِّص الشعر من أعراض الواقع، وتحوِّله إلى خلاصات تأمّلية وفلسفية. في قصيدة «متاهة»، نقرأ: رجلٌ يتسلق سُلَّماً/ وهو يحمل على كتفيه سلماً يتسلقه رجلٌ آخر/ عند نهاية كلِّ سلمٍ سلالمُ أخرى، وهناك رجالٌ يتسلقونها، وعلى أكتافهم سلالم/ السلالمُ تؤدي إلى سلالم: متاهةٌ تنفتحُ على متاهة، والأملُ/ هو العَثَرَات». في المقابل، يُظهر الشاعر نفسه بطريقة مماثلة، أو مشتقَّة من مزاج الكتابة ذاتها. «لبثتُ مختفياً داخل نفسي»، يقول في مطلع قصيدة «ميتافيزيقيا»، و«كلُّ ما ألمسُ صار يعرفُ أني أودِّعُه». وفي قصيدة أخرى «لا أحد مثلي يرشُّ القلقَ على ما يكتبُ». أما إذا حضرت المرأة، فتكون محكومة بشروط القصيدة بعيداً عن عتاد الغزل المعهود. في القصيدة التي حمل الديوان عنوانها، نقرأ: «في الأصل كنتُ مشروع شجرة، ولا أعرف لِمَ نبتُّ إلى جواركِ بهذه الهيئة المحطمة، حيث كل لمسةٍ منكِ هي الفأس». وفي قصيدة أخرى: «عندما لم أعرف كم شجرةً أقطعُ/ كي أنتزعَ، من أرضِ روحِهَا، شريعةَ الغابة». القصد أن مكونات القصيدة مشروطة بالاستجابة لنبرة متطلبة، تسعى إلى كتابة الأثر الفلسفي العميق للوجود

لغة النشوة الميتافيزيقيّة ترمي التفاصيل خلفها وتحطّم نوافذ الطمأنينة

الإنساني، حيث الشاعر ليس مرتهناً لواقعٍ أو زمنٍ أو هوية محددة. الهدف هنا هو الوصول إلى كتابة صافية يجري فيها «تحطيم نوافذ الطمأنينة برعدِ الخيال». في شعر فنجان محاولة لكتابة التجربة الميتافيزيقية لوجود الكائن في المطلق. لا يعود مهماً عندها أن نعدد عناصر الواقع ومشهدياته ومفرداته. لن نجد هنا تاريخاً شخصياً أو وقائع حياتية محتفظة بهويتها البديهية. كل شيء يشتغل في خدمة رؤيا شاملة، لكن هذا لا يُغرق اللغة في التهويم البلاغي أو التفجع اللغوي. المعنى يظل في متناول القارئ رغم النشوة الميتافيزيقية التي تسري فيه. اللغة هنا مصفَّاة. ما هو تفصيلي وعَرَضي يتجوهر، ويتحول إلى حكمة وتأمل وعزلة. السعي إلى التأمل والعزلة ينأى بالشعر عن المنبرية والصخب العمومي والاحتفاء الزائف. لعل هذا يفسِّر تعفُّف الشاعر وزهده في نشر التجربة بانتظام.
«من المؤسف حقاً أن تموتَ، ولا أحد يدري أنك كنت شاعراً». بهذه الصورة العذبة والمريرة في آنٍ واحد، يبدأ فنجان قصيدة «أغنية خارج السرب». لعله يرثي نفسه حياً، ويرثي أقرانه الراحلين.