بيار أبي صعبكل عبّاس هنا، شعره وحياته وأوجاعه وندمه المزمن على أعمار لم يعشها. تلك العلاقة بالزمن أيضاً. استحالة الوجود، أي التصالح مع فكرة العابر والزائل. «يستحسن أن نموت قليلاً مع الموتى/ أن نتناوم ليرحلوا في غفلة منّا/ يستحسن أن لا نراهم وهم يتحوّلون/ ويسلّمون أنفسهم لأمير الظلام»... عبّاس بيضون قارئ ريلكه، تركه يتسلّل أحياناً إلى قصيدته. هذه المرّة نرى صاحب «مراثي دوينو» بالعين المجرّدة: «إنهم أرواح من ورق ولن يمكثوا طويلاً. أيّها الرسول إلى متى تبقى أمامي. أيتها الصفحات العزيزة أنا أعرف بماذا ملأتك». ما نقرأه هنا نشيد تصفّى من تراجيديّته، لم يبقَ منه إلا همسات، لحظة ارتطامه بالواقع. بوح حميم، فات وقته ـــــ كأجمل الشعر دائماً ـــــ لصديق تماهى مع الذاكرة والوقت والذات. تلك الاعترافات المتأخرة تشبه ندباً أخرس، يتلطّى خلف تفاصيل يوميّة صغيرة، مرتبة بعناية في المخيّلة الهائجة إذ تقف في مواجهة الفقد.
ثمّة قصائد يخيّل إلينا أننا قرأناها مراراً. مفردات أليفة مثل «تنزّ» أو «صناديق»، ضمائر متصلة مثل الـ«نا» في «المطر يستمرّ خلفنا»، و«بقينا في مقاعدنا التي صارت ضيّقة علينا». ذلك أن «بطاقة لشخصين»، مجموعة عبّاس بيضون الصادرة عن «دار الساقي»، قد لا تكون محطّة جديدة في مسيرته الشعريّة، بقدر ما تبدو صدى مكثفاً لتجربته. صلاة حميمة مستعادة. يستنفر الشاعر أدواته، ليستعيد عمراً كاملاً خسره مع رحيل بسام حجار. يحوم بلا كلل حول ذلك الشيء الهارب ـــــ أو بالأحرى ذلك «اللاشيء بين الجمل» ـــــ فإذا بنا أمام بعض أجمل ما كتب في الصداقة والشعر، وفي الموت وفي الحياة: «صاروا أسماء/ وطالما تشبّثنا بهم لكي يتمهّلوا/ صاروا أسماء».