يقتفي السينمائي الفلسطيني خطى محمود درويش. يعود إلى أماكنه الأثيرة، من حيفا إلى بيروت مروراً بباريس، برفقة ساراماغو وسوينكا وآخرين
أحمد الزعتري
انطلق السينمائي والصحافي الفلسطيني من فكرة بسيطة وقويّة، هي العودة إلى الأماكن التي سكنت محمود درويش. النتيجة فيلم جدير بالمشاهدة لغنى مادته، ومثير للنقاش في آن واحد لوقوعه في مختلف الكليشيهات: درويش الغائب، ودرويش الرمز، ودرويش المنفيّ والمسافر. هذا هو باختصار شريط نصري حجّاج «كما قال الشاعر» الذي عرض في عمّان، ويتزامن عرضه في بيروت وحيفا مساء 3 شباط (فبراير) الجاري.
حجاج (1951) الشغوف بالأجواء السوداويّة، كما في شريطه «ظل الغياب» (2008) حيث تقصّى المقابر الفلسطينيّة على امتداد رقعة الشتات، باحثاً عن الأجساد المنفية في موتها، يقدّم في شريطه الوثائقي الجديد «رسالة حب» إلى الشاعر الراحل... فهل يكفي الحب لتقديم رؤية جديدة لصاحب «أثر الفراشة»؟
خلال 65 دقيقة، تشعبت بنية الفيلم على ثلاثة مستويات: الأول تجوال في أماكن الشاعر الخالية منه: منزله الأخير في عمّان، سريره الأخير في مستشفى تكساس في هيوستن، مكتب مجلة «شؤون فلسطينيّة» في بيروت، غرفته المفضلة في فندق Madison في باريس... أمّا الثاني، فقراءات من شعره، بصوت كتّاب أمثال البرتغالي خوسيه ساراماغو، والنيجيري وول سوينكا، والفلسطيني أحمد دحبور، واللبنانيّة جمانة حدّاد، والشاعر الإسرائيلي («التقدّمي») إسحاق لاؤور... أما المستوى الثالث، فمَشَاهد «تخيّليّة» مبنيّة على مقاطع من قصائد الراحل.
لا يمكن الحديث هنا عن صورة سينمائيّة خاصة. المَشاهد التي أدارت تصويرها جوسلين أبي جبرايل، لم تخرج عن التنميط الجاهز. تخرج الكاميرا من داخل منزل الشاعر في حيفا، لتقترب من النافذة المطلة على البحر، تُراقب دخاناً من سجائر رواد مقهى، أو تلاحق سرب حمام حول قبر درويش في رام الله، أو مقعداً فارغاً في مسرح الـ«أوديون» في فرنسا.
أراد حجّاج لعمله «الابتعاد عن أسلوب التقارير التلفزيونيّة التي عرضت مراراً (...). إنه فيلم وثائقيّ غير تقليديّ ينزع إلى توريط المشاهد في التأمل بالابتعاد عن المعلومة السهلة(...)». لكنه ذهب إلى إنجاز فيديو كليب متقن، يعتمد على المجاز السهل غالباً.
في رؤيته الخاصة لقصيدة «لاعب النرد»، لا يجد أعمق من تصوير رواد مقهى يلعبون طاولة الزهر. أمّا قصيدة «على محطة قطار سقط عن الخريطة»، فقد رأى حجاج تجسيدها عبر امرأة خمسينيّة تجلس أمام قطار صدئ في محطة مهجورة. وفي مقطع «لم أوقف حصاني إلّا لأقطف وردة حمراء من بستان كنعانية أغوت حصاني»، نرى كنعانيّة ـــــ هي جمانة حدّاد ـــــ تجول في بستان، وفي خلفية الصورة حصانٌ ينتظر صاحبه. لحسن الحظ، هناك لحظات أخرى تفلت من تلك السطحيّة، مثل مشهد الشاب الذي يؤدّي المقطع الأخير من قصيدة «لاعب النرد» بلغة الصم والبكم يرافقه صوت الشاعر.
الفيلم، الذي تلقفته الصحافة الأردنيّة بكثير من الإطراء، لم يجرؤ على انتقاده إلا بعض المدونين. كتب أحدهم «لا أدري ما هي الإضافة بأن أرى غرفة الفندق التي نام فيها درويش لآخر مرّة في

إنه ليس محمود درويش بل صورته المستهلكة!
فندقه المفضل في باريس؟ وتلك الأوراق التي رأيناها على الطاولة هناك؟ أيجب أن أفترض أن هذه أوراقه وأقلامه؟ ومن ثم يجب أن أقنع نفسي بأنّ هذا الافتراض صحيح؟ ثم يجب أن أتأثّر بذلك؟». لكنّ تلك اللعبة شاهدناها في أعمال عالميّة سابقاً، مثل «قرنفل» الراحلة بينا باوش، حيث يردّد الممثل/ الراقص كلمات أغنية غيرشوين الشهيرة «الرجل الذي أحبّ» بالتقنيّة نفسها.
نلمس في الفيلم شغف حجاج بدرويش، وإحساسه الصادق بالفقد، لكن ذلك لا يكفي لإنجاز فيلم ناضج فنيّاً. حين يدخل المشاهد إلى فيلم عن محمود درويش، يتوقّع أنضج الابتكارات الأسلوبيّة والجماليّة التي تليق بقصيدته. وإلا فلنتركه بسلام في ذلك القبر البشع الذي يظهر في الفيلم تحت سرب حمام. إنه ليس محمود درويش، بل صورته المستهلكة.


6:00 مساء الأربعاء 3 شباط (فبراير) ـــــ سينما «متروبوليس» (بيروت) ـــــ للاستعلام: 01/204080 ـــــ وفي الوقت نفسه يعرض الفيلم في «مسرح الميدان» (حيفا/ فلسطين)