يكتب قصيدة كلاسيكية تتنفس هواءً معاصراً

الشاعر اللبناني الذي برع في تطويع اللغة واستثمار ماضيها الذهبي في قصيدة راهنة، أصدر أخيراً أعماله الكاملة عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر»، وكتاباً نثريّاً بعنوان «غرباء في مكانهم». عودة إلى التجربة التي جمعت بين الغنائيّة و«التفعيلة» والحداثة


حسين بن حمزة
الأعمال الشعرية الكاملة تمنح القراء والنقاد، حتى الشعراء أنفسهم، فرصة النظر إلى مسار التجربة كلها ومعاينة خطوطها العريضة ومنعطفاتها الأبرز. أعمال محمد علي شمس الدين (1942) الصادرة حديثاً في مجلدين (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) لا تشذّ عن هذا التصور. صحيحٌ أن التجربة لا تبوح بكل أسرارها ما دام صاحبها لا يزال يكتب، إلا أن الممارسة المديدة (12 ديواناً) تجعل المجازفة ضئيلةً ــــ وربما معدومةً ــــ في تقدير ما نقرأه. كما أن شمس الدين نفسه يسهّل علينا تتبّع تجربته. إذْ كشف منذ باكورته «قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا» (1975) عن سعي واضح إلى امتلاك «صوت خاص» و«عالم خاص»، بحسب تعبير المستشرق الإسباني بيدرو مارتينيز مونتابث في مقدّمة الأعمال الكاملة.
تبدّى ذلك في اقتراح أكثر من نسق حواري أو معماري للقصيدة الواحدة، وفي استثمار التراث العربي الشعري والديني، وفي ابتكار قرابات وأواصر مع شعراء قدامى. كان «العالم الخاص» حصيلة ممارسات شعرية واعدة، تحولت سريعاً إلى سمات لنبرة الشاعر وصوته الخاص.
إذا أردنا العثور على صفة جوهرية وأساسية ملازمة لنبرة هذا الشاعر، فهي طلاقته في الإيقاع. وهي صفة تحظى بقيمة إضافية في راهن شعري يكاد أن يكون مطوّباً باسم «قصيدة النثر» دون سواها. في ظل الاستبداد الذي يُمارسه النثر، سواء عن حقّ أو باطل، يصير تمكّن شاعرٍ شاب من الإيقاع أشبه بالأعجوبة، وقدرته على جعل اللغة الكلاسيكية تتنفس هواءً معاصراً حدثاً خارقاً. لعل هذا يُفسر نُدرة المواهب الجديدة الساعية إلى كتابة «قصيدة التفعيلة» التي بات شعراؤها الأحياء أشبه بعصبة متناقصة العدد ومهددة بالانقراض. نسوق هذه الملاحظة لنقول إن شمس الدين برع في تطويع اللغة واستثمار ماضيها الذهبي داخل قصيدة حديثة وراهنة. إنه واحد من تلك القلّة التي حظي أصحابها بهذه المَلَكة ونجحوا في ترجمتها داخل قصائدهم.
لا يضير صاحب «الشوكة البنفسجية» (1981) أن يعوم شعره الموزون في محيط نثري شاسع. كأن شعريته تعمل بمفعول ماضوي ومستقبلي في آن. إنها شعرية معطاة بالبداهة التاريخية، لكنها حائزة معايير الكتابة الراهنة أيضاً. شعرية غير خاضعة لـ«العنصرية» التي اشتدت حتى فترة قريبة بين التفعيلة والنثر. إنه شاعر حقيقي، يمكنه أن يُنسي حتى غُلاة النثر بيننا، السؤال عما إذا كان ما نقرأه موزوناً أو منثوراً. لنقرأ: «سأموتُ وحيداً/ في هذا العالم/ فوق بساطٍ/ من طيش الأفلاكْ/ وكمثل غريقٍ في بحرٍ/ لا ساحل فيه/ أو مركبْ/ أسأل نفسي:/ أكتبُ/ أم/ لا أكتبْ/ ما دام كتاب الله الأول/ محفوظاً في اللوح المُنزلْ/ من يقدر أن يكتب حرفاً/ أو يمحو/ لكأن الدهر سجلٌّ/ لم تولد فيه الكلمات». هذا مثالٌ على مهارة الشاعر في دفن الإيقاع داخل الجملة، وجعل المعنى يصل إلى القارئ قبل حمولته الموسيقية. الانتقال من جملة إلى أخرى يتم بالمعنى لا بالإيقاع فقط.
من ديوان إلى آخر، نضجت قصيدة صاحب «منازل النرد» (1999). تلاشى الصخب اللغوي الذي صاحب بعض أعماله الأولى. خفّ التنامي الدرامي والغنائي المتسارع لمصلحة نبرة أكثر تأملاً وفلسفةً وحكمة. ظل الغناء موجوداً بجرعات خفيفة لا تمنع رشاقة الشعر وقدرته على اصطياد المعاني والاستعارات. لكن في الحالتين، ظل شمس

الخلفية التراثية والمعجم الخصب يؤمِّنان نضارة هذا الشعر رغم عموديته
الدين حاملاً صوت الجماعة في طيّات صوته الفردي. وهو ما أنشأ له هوية شعرية مزدوجة: الأولى تصله بماضٍ شعري سحيق، والثانية تصنع له مكاناً في الشعر الراهن. لعل هذا يبرر لِمَ تحلِّق قصيدته بجناحي الحداثة والتراث، ولِمَ يُكثر من استحضار شعراء وشخصيات ويستخدمها كأقنعة شعرية. في ديوانه «الغيوم التي في الضواحي» (2006) وحده، حضر كلّ من المتنبي والحلاج ومجنون ليلى والسياب وابن حزم والفارابي وشهرزاد... فضلاً عن استثمارات تاريخية ودينية عدّة.
وفي «ممالك عالية» (2002)، أهدى شمس الدين قصائد عدة إلى شاعر الفرس الأكبر حافظ الشيرازي. وفيها تجلت كلاسيكيته العمودية على أفضل وجه، لنقرأ: «يمشي على الموت تيَّاهاً كأن به/ من الألوهة سراً ليس يُخفيهِ/ يمشي الهوينا وقتلاه تمجّده/ كأنما كلّ ما يُرديه يُحييهِ/ يعلو على الغيم أحياناً وآونةً/ يدنو فيصبح أدنى من معانيهِ/ أعطيته كل ما أُوتيت من نِعَمٍ/ وما ندمتُ، فألقاني على التيهِ».
الخلفية التراثية والمعجم الخصب هما النسغ الذي يؤمِّن نضارة ما نقرأه رغم عموديته. جملة شمس الدين تتحرك في أفق لغوي وتخييلي واسع، وتمتلك مزاجاً وجودياً وكونياً وصوفياً. ثمة حمولة تاريخية وشعرية ودينية تتراءى تحت ما نقرأه. القارئ يحس أنه مدعوّ إلى أخذ التجربة بكليتها، إلا أنّ هذا لا يمنعه من تعقب استعارات ومقاطع تلمع من تلقائها داخل القصيدة. عديدةٌ هي هذه الحالات، لكن لنختم بمقطع أخّاذ من قصيدة كُتبت عن حرب تموز، وأعلن فيها الشاعر عجز الكلمات، وحاجتنا إليها في الوقت نفسه: «إنها الحربُ/ ما حيلتي/ أقول لكم/ ليس في قدرتي أي شيء لأمنعها/ ولستُ قوياً كما قد يُخيَّل لي/ كي أضيف إلى نارها جمرةً واحدة/ أنا الكلماتُ... الكلمات».