في معرضها الثاني بعد «حماقات»، تنسج التشكيلية اللبنانية رؤية كابوسيّة للعالم، طارحةً أسئلة اللذة والعنف والألم والخوف من العقاب
سناء الخوري
مزعجة آني كوركدجيان (1972). تعذّب شخصياتها بكلّ برودة أعصاب. أشكال التعذيب تبدأ بالتشويه والشدّ والتعرية والمصّ، مروراً بالبتر والليّ والعضّ والقضم، حتّى الالتهام الكامل. لا تتعمّد التشكيليّة اللبنانيّة إحداث صدمة، إنَّها مسألة أسلوب فقط. قد يكون مجحفاً إدراج معرضها الأخير La Grande Bouffe الذي تستضيفه غاليري Pièce unique تحت عنوان العقاب لا غير. في اللوحات الـ22، المرسومة بالأكريليك على القماش، أو بالأكريليك والباستيل على كرتون، الكثير من الغرابة، وبعضُ الفكاهة، وواقعيّة فجّة تحت طبقات من الاستعارات النفسيّة. تستخدم كوركدجيان بإتقان المساحات اللونية الواسعة، والبساطة الظاهرة في الأشكال والمقاطع اللونيّة والظلال، للعب بمصطلحاتها وتقليبها.
ترسم أجساداً عارية أو مغلّفة بطبقات من قماش كأنها كفن أو شرنقة. ترسم قُبلةَ كائنين ضخمين، يقومان بعمليَّة التهام متبادلة. ترسم امرأةً بثديٍ مبتور، وعيون حائرة. ترسم جمعاً يتحلَّق حول سيدة عارية، وأخرى أشبه بقماشة معصورة. ترسم أنثى تلتهم أطفالاً، ينزلون من أسفل ثوبها كأنّها معبر مثقوب. ترسم أطفالاً مغلفين في ذلك الكفن ــــ الشرنقة، يلتهمون بدورهم ثديي امرأة. التهامٌ يذكّرنا بتمثال الذئبة التي تطعم رومولوس وروموس، مؤسسي روما، في تلك الأسطورة القديمة. روما نفسها التي تتحوّل بعد هذه الخطيئة الأصليّة إلى سادوم وعامورة جديدة.
في معرضها الفردي الثاني، بعد معرض «حماقات» العام الماضي، تثبت آني كوركدجيان خصوبة مخيلتها وقدرتها على الإزعاج ومساءلة أعماقنا الحميمة. في خضمّ هذا الجحيم (أو المطهر؟)، تبدو الأسنان البارزة والعيون الوقحة والساكنة، أكثر ما يستفزنا. الأسنان بيضاء دقيقة وصغيرة، تتسلل من الفم لتلتهم ما حولها، كحشرة أو قطّة أو حيوان برّي. العيون مهروسة، حائرة، مفجوعة. تقول للحظة: متى ينتهي ذلك؟ طقس التعذيب هذا، يشبه بتقنياته ولهجته المباشرة والمهلوسة في آن، إبداعات الفنّ الساذج.

طبقات القماش تغلّف الأجساد كأنها كفنٌ أو شرنقة


تصلح الرسوم في البداية لصفوف أكاديميّة في التحليل النفسي، قد تتناول علاقة اللذة والعنف وفعل الأكل بطبقات اللاوعي. تحكي الأعمال ربما، عن المرحلة البدائيّة لاكتشاف اللذة، وما يرافقها من ألم وخوف من العقاب. كلّها استيهامات حيوانيّة، يقتلها وعينا الاجتماعي. تتداخل هنا، ثقافات الفنانة المتنوّعة، وخصوصاً أنّها درست علم النفس واللاهوت إلى جانب التشكيل.
يبدو التهام المرأة والرجل أحدهما للآخر، تنويعاً لفكرة الخطيئة الأصليّة. ويبدو التهام الأم لأطفالها والتهام هؤلاء لها أيضاً، جزءاً من عقدة أوديبيّة ما. يختلط كلّ ذلك بحركات بهلوانيّة لشخوص تلعب بجسدها، تحوّره، تفتعل ألمه، بشيءٍ من الغرائزيّة. يختلط ذلك أيضاً بمحاولات تضخيم الأنا العاجزة. تبلغ هذه الأخيرة قمّة السخرية السوداء، في لوحة خلفيتها ورديّة، وأبطالها عمالقة، يقفون بالصف مستعرضين أحجام أعضائهم الذكريّة الصغيرة جداً. العضو الذكري الصغير والعاجز ينضمّ إلى العين والأسنان لتكوين حلقة مفرغة من الرغبة والقلق والألم في جميع الأعمال المعروضة.
هذا الجحيم المرسوم، هو إذاً تجلٍّ لحفر صعب ومتعب في النفس البشريّة. إنّه بحث جدي بواسطة أدوات التشكيل، عن علاقات الإنسان المضطربة بالآخر وبالمحيط والذات. كلّ ذلك الاضطراب والعنف، ليس إلا استعارة لمجتمع يأكل نفسه، ويغرق في البشاعة والكبت. يذكرنا ذلك بأجواء شريط ماركو فيريري الذي يحمل العنوان نفسه، حيث تنتهي الشخصيات بالموت من كثرة الأكل. تشوهٌ في العلاقات يوحي بأجواء بلاطات روما. قافلة من المخاوف والآلام تشرعها آني كوركدجيان أمامنا. تفعل ذلك مستغنيةً عن فوضى الشكل... وبكل برودة أعصاب.


La Grande Bouffe ـــ حتّى 12 كانون الأول (ديسمبر) ـــ غاليري Pièce unique (الصيفي/ وسط بيروت) ــــ للاستعلام: 01/975655