الحوار المطوّل والشامل الذي أجراه الصحافي الفرنسي جورج مالبرونو مع «الحكيم» في سنواته الأخيرة، صدر أخيراً بالعربيّة عن «دار الساقي». إنّها «رواية» أو سردية للقضية الفلسطينية من وجهة نظر أحد صانعيها الكبار... ومناسبة للوقوف عند إنجازات «الثورة» وإخفاقاتها
حسين بن حمزة
كتاب «جورج حبش/ الثوريون لا يموتون أبداً» (دار الساقي) هو حصيلة حوار طويل أجراه الصحافي الفرنسي المعروف جورج مالبرونو مع جورج حبش (1925 ــــ 2008). يغطي الحوار أغلب محطات الحياة السياسية لمؤسس «حركة القوميين العرب» و«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»
: الأدوار التي لعبها على الصعيد الفلسطيني والعربي، مواقفه وآراءه ورؤيته لمستقبل الصراع العربي ــــ الإسرائيلي. الإحاطة شبه الشاملة التي يقدمها الكتاب عن حياة حبش، والبنية الكرونولوجية له، دفعتا أنيس صايغ، في مقدمته الذكية والعميقة، إلى تصنيف الكتاب في باب المذكرات الشخصية ووصفه بأنه «مذكرات غير مباشرة».
نقرأ الكتاب، ونكتشف أن صايغ لم يُجانب الصواب في ما ذهب إليه، فأجوبة حبش عن تجربته النضالية والفكرية والسياسية تتراءى لنا كنص متماسك وسيّال، يتتالى زمنياً وشخصياً إلى حدّ تبدو فيه أسئلة محاوِره الفرنسي مجرد مفاتيح وحوافز ومشهّيات جاءت كي تكفل تدفّق كلام المناضل الفلسطيني الكبير.
لا شك في أنّ سيرة «الحكيم» ـــ وهو اللقب الذي اشتُهر به بحكم دراسته للطب في الجامعة الأميركية في بيروت ـــ ليست خافية على القراء، وخصوصاً لمن عاشوا الفترة نفسها وكانوا شهوداً على نشوء القضية الفلسطينية وتطوراتها الدراماتيكية. لكنّ الكتاب لا يقدّم معلومات وتواريخ فقط. ثمة خلاصات وأفكار ومعتقدات شخصية وسياسية وُضعت على محكّ نضال قاس وشرس. ثمة رجل وضع حياته على كفه مرةً وإلى الأبد. رجلٌ أفنى عمره في الكفاح من أجل تحرير وطنه، لكنه كان إنساناً أيضاً. لعل المذاق البشري العادي هو ما نفتقده عادةً في سِيَر أشخاص من هذا النوع. بالنسبة إلينا، هم أبطال خارقون منذورون لقضايا كبرى، أما حياتهم الشخصية، كبشر عاديين، فهي تفاصيل نافلة مقارنة بما يناضلون من أجله. من النادر أن تلمع اللحظات الإنسانية أكثر من لحظات النضال. القضايا الوطنية لا تترك مجالاً للهشاشة البشرية. في حالة جورج حبش، يجد هذا التصور الشائع تطابقه الكامل مع الواقع. الرجل الذي ولد في اللّد عام 1925، وتفتّح وعيه السياسي مع ثورة 1936 التي قادها عبد القادر الحسيني، عاش بوقود هذا الوعي الاستثنائي حتى رحيله عام 2008. وبين هذين التاريخين، عايش الرجل كل محطات الثورة الفلسطينية، بمنعطفاتها ونجاحاتها وإخفاقاتها: النكبة، تأسيس «حركة القوميين العرب»، تأسيس «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، تأسيس «منظمة التحرير الفلسطينية»، هزيمة حزيران واحتلال إسرائيل كامل مساحة فلسطين، أيلول الأسود وخروج المقاومة الفلسطينية من الأردن، لجوء الجبهة الشعبية إلى خطف الطائرات لتعريف الرأي العالمي بحقيقة القضية الفلسطينية، الحرب الأهلية اللبنانية، حصار بيروت وخروج المقاومة الفلسطينية من لبنان، الانتفاضة الأولى، اتفاق أوسلو، الانتفاضة الثانية، رحيل عرفات...
نحن هنا نحصي التواريخ الأساسية فقط، غير غافلين عن عشرات بل مئات التواريخ الأخرى التي تتوالد منها، فضلاً عن عشرات الأسماء البارزة التي عايشت تلك الأحداث وصنعتها. التواريخ والأسماء هي جوهر الأسئلة التي يُثيرها المحاوِر الفرنسي، كي تحظى من جورج حبش بتعليق جوهري أو رأي ثمين. بطريقة ما، جورج حبش هو صورة طبق الأصل عن تلك التواريخ. لقد أسهم في صنع بعضها وأسهم بعضها في صنعه هو. ثمة أشخاص تتساوى حياتهم مع وقائع القضية التي ناضلوا في سبيلها. «الحكيم» واحد من هؤلاء. في السياق الفلسطيني، يمكن إضافة أسماء أخرى: ياسر عرفات، صلاح خلف (أبو إياد)، خليل الوزير (أبو جهاد) وديع حداد...
يصعب تلخيص كتاب تقوم بنيته على آراء وتعليقات وتحليلات متواصلة، وينتهي إلى أن يكون نوعاً من «رواية» أو سردية كبرى للقضية الفلسطينية من وجهة نظر أحد صانعيها الكبار. نلاحظ أن سيرة حبش تستدعي ياسر عرفات في أكثر من مناسبة. ثمة مقارنة

مقارنة بين صلابة «الحكيم» وبراغماتية ياسر عرفات

واضحة هنا بين صلابة الأول وجذرية مواقفه، ودبلوماسية الثاني وبراغماتيته. وجود «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» في «منظمة التحرير الفلسطينية» كان يدفع الثانية إلى إجراء تعديلات في نهجها وتكتيكها السياسي، بناءً على أخذ موقف حبش في الاعتبار. بهذا المعنى، لم يكن بلا دلالة أن يُلقب الحكيم بـ«ضمير فلسطين». احترم حبش صديقه اللدود رغم اختلافهما في النظر إلى القضية الفلسطينية. «اتفاق أوسلو» كان آخر هذه الخلافات. عاد عرفات إلى رام الله و«قتلته الدبلوماسية» وفق تعبير حبش في الكتاب، بينما رحل حبش نفسه من دون أن يرضخ لـ«عودة ناقصة».
أخيراً، نشير إلى تسرُّب جانب إنساني وعائلي حميم إلى الكتاب، عبر حضور هيلدا زوجة حبش وأم ابنتيه. «كل ما فعلته كان بدعمها ومساعدتها»، يقول حبش عن رفيقة دربه. أما الابنة لمى فكتبت في تأبينه: «أن يولد الإنسان في ظروف استثنائية تجربةٌ لا يعرفها الكثير من الناس. أن تغيّر اسمك ومسكنك عشرات المرات ويسكنك القلق، أن تتعلم كيف تعيش حذراً... كلها أشياء تدفع طفلاً حُرم من طفولته إلى السؤال: ماذا يفعل أبي؟ ولماذا يُثير قلق إسرائيل؟ ولماذا يُقلقني معه؟ ولماذا نحن بالذات؟».