هل العنف حقاً مترسّخ في «جوهر الشخصيّة الجزائرية»، كما كتب صاحب «عزازيل»؟ أم أن الأديب المصري الحائز «بوكر» العربيّة العام الماضي، انجرّ إلى فخّ الشوفينية المقيت؟
ياسين تملالي
لم تؤلمني العنصرية التي تذكر بها الجزائر ومصر في بعض وسائل إعلام البلدين، كما آلمني مقال يوسف زيدان «ذكريات جزائرية» («المصري اليوم» ــ 25 ت2/ نوفمبر). كان أحرى بمن كتب دفاعاً عن روايته «عزازيل» أن «العنف لا يرتبط بجوهر الديانة» أن يردد أيضاً أنّ العنف ليس من «جوهر الجنسية الجزائرية»، بدل إقناع قرائه بأنّ الجزائريين مثال للعنف والصفات الذميمة من تعصب وتأهّب دائم لـ«فقء العيون».
بحثنا فلم نعثر في المقال إلا على محطتين على علاقة مباشرة بذكرياته الشخصيّة. الأولى عن سفر الكاتب (لا نعرف تاريخه) إلى الجزائر وما قاساه هناك من «إهمال شديد». والثانية عن معركة لفظية مع طلاب جزائريين «كانوا مثالاً للغباء والعنف الداخلي والتعصب»، وصفوا مصر جهلاً بالتخلف، فذكّرهم هو ــ متعالماً ــ بأنّ «تراثنا لا يعرف بلداً اسمه الجزائر» (هل يعرف «تراثنا» بلداً اسمه سوريا مثلاً؟ وهل البلدان بأسمائها الحديثة في «التراث»؟).
على هاتين المحطتين، شيّد صاحب «بوكر» صرحاً من الكليشيهات. نعرف من قراءتنا لإدوارد سعيد أن «الابتداع الجغرافي» (رسم جغرافيا وهمية تتلاءم مع ما نريد إثباته) هو من وسائل الاستشراق. هذا ما يقوم به زيدان، فلا حديث له عن الجزائر إلا كـ«صحراء». ونحن إذ نذكِّره بجغرافيا الجزائر، فلأنّ «لصحرائه» المبتدعة على منوال المستشرقين (بالأحرى على منوال هوليوود) وظيفةً محددةً: تصوير البلد على أنه بلد عنف أعمى لا يعرف النظام، وتصوير الجزائريين على أنهم همج يهيمون في تلك البيداء.
الجزائريون فخورون بصحرائهم، ويذكرون باعتزاز أنّهم رفضوا مقترحات الاستقلال الفرنسية التي تحرمهم إياها، لكنّهم سيسخرون من زيدان لو قرأوا وصفه بلدهم بالصحراء. لا أحد وصفها بهذا اللفظ من الرحالة القدامى والجغرافيين المعاصرين. كل مَن وصفها، ذكرها بما يميزها عن بلدان تقتسم معها الصحراء الكبرى، أي بجبالها وغاباتها وأمطارها وثلوجها (كما وصفت مصر بما يميزها، أي النيل، لا بما تشترك به مع جيرانها من كثبان). الطريف أنّ لبعض الجزائريين كليشيهاً مماثلاً عن مصر. كلها صحراء، يقولون. لكن هل يصدق الحديث عن مصر دون الحديث عن النيل؟ ثم هبْ أن الجزائر بحر من الرمال، هل يبرر ذلك احتقارَها؟ ماذا سيقول «صحراويو» مصر وهم يقرأون هذا الكلام العنصري؟
ويبدو هذا الاختراع الجغرافي مقدمة لاختراع آخر. اختراع بدو خياليين يسكنون الجزائر (يعيثون فيها فساداً بطبيعة الحال، فالبدو في الأرض مفسدون). هنا أيضاً، لا يهمنا فضح تجاهل زيدان لحقيقة أن الجزائريين هم من سكان الجبال أساساً وأن معدل استقرارهم في المدن حالياً من أعلى المعدلات في العالم العربي، بقدر ما يهمنا فضح كراهيته لبشر مثله، (الصحراويون)، ينعتهم بالجبن تارة والخشونة طوراً، في ما يشبه الخطاب الاستعماري. لا يهمنا فضح هذا الجهل إلا لأن ابتداع «شعب بدوي» هو مقدمة لهذا السؤال المتعالي: «هل هناك حقاً حكومة وجماعات إسلامية بهذا البلد؟». تمنينا لو كان زيدان صادقاً وألا حكومة وجماعات إسلامية في الجزائر، لكن الواقع المر أنّ فيها حكومة جاثمة على صدرها وحركة إسلامية تُعمل في شعبها تقتيلاً منذ عقدين من الزمن.
نتساءل: ما الغرض من مغالطات زيدان الجغرافية؟ ربما رغبته بإدانة ما يعانيه المصريون في بلدان «صحراوية» أخرى (ليبيا أو دول الخليج) لم يجرؤ على التعرض لها لسبب مجهول، فاختلق «دولة بدوية» ينتقم منها لما أهين من كرامة مواطنيه في بقاع «العالم الصحراوي». ألم يكن الأجدر به أن ينتقد بوتفليقة وملوك الخليج وقائد ليبيا الأبدي بدل «الاستئساد» بشتم الشعوب؟
ولا يكترث زيدان لجهله ببلد لم يره سوى مرة، فيزعم أنّه قبل الأمير عبد القادر «لم يشتهر عالم واحد في تراثنا باسم الجزائري»، وأن الجزائريين «انتزعوه من مرقده المختار، بجوار محيي الدين بن عربي (...) كى يضعوه في مكان مهجور على طريق المطار، فلا يكاد أحد يعرفه الآن». لن نردّ على هذا الكلام بمثله من التفاخر الشوفيني بالمشاهير. نكتفي بأنّ هذا «المكان المهجور» هو مقبرة الشهداء. وفضلاً عن أن الجزائريين يعرفون الأمير جيداً (بل تُنسيهم معرفته أحياناً أبطالاً غيره)، فهم يفتخرون بمرقده في ذلك «المكان المهجور»، فجوار الشهداء ليس أقل شرفاً من جوار شيخ الصوفية الكبير.
ويعتقد زيدان صادقاً أن مصر «صنعت الجزائر». فقد أصبح روتينياً في بعض الإعلام المصري طيّ تاريخ الحركة الوطنية، ليعلو اسم عبد الناصر وحده. نعم ساعدت مصر الثورة الجزائرية، لكن مَن حرّر الجزائر هم الجزائريون، ومن عبَر القنال هم المصريون. ما يشرّف مصر أنّها ساعدت ثورة الجزائر، لا الندم على ذلك. وما يشرف الجزائر أنّها شاركت في حرب أكتوبر ودعمت حركات التحرر في العالم، لا الندم على ذلك كما يفعل نظراء زيدان من الشوفينيين الجزائريين.
وعندما تصل الأفكار إلى منتهاها، تُعيَّر الشعوب بمآسيها: الجزائر استُعمرت 132 سنة وعاشت في التسعينيات صراعاً داخلياً طاحناً. لا تعليق لزيدان على المأساة الأولى سوى الزعم أنّ جميلة بوحيرد «حبيسة بيتها تتجرع آلام حسرتها على جهادها الذي (...) خفضه الواقع الجزائري المعاصر إلى أسفل سافلين». بوحيرد ليست «حبيسة بيتها»، وأحد آخر أسفارها كان في 2009 إلى جنوب لبنان لتنظر إلى فلسطين باكية من وراء السياج. ثم ما ردّه على أن شوفينيي الجزائر يفكرون مثله ويقولون إن «الواقع المصري خفض مصر وتاريخها العريق أسفل سافلين»؟

توقف التفكير وتعطّل الحس الإنساني لتُختزَل التراجيديا إلى كليشيه قاتل
ولا يبدو زيدان أكثر تعاطفاً مع معاناة الجزائريين في التسعينيات. يكتفي بحمد الله على نجاته من بعض أحداث العشرية الحمراء. يقول معللاً عزوفه عن السفر إلى الجزائر بعد رحلة «الإهمال الشديد»: «وقد أكون رُحمتُ من تفجيرٍ عشوائي أو مذبحةٍ جماعية»، ثم يضيف كاستعماري أصيل: «ولا أحد يعرف لماذا يذبح بعضهم البعض الآخر». تتوقف دورة التفكير ويُلقى بالحس الإنساني في المهملات لتُبتسر تراجيديا كاملة في سؤال استنكاري يقارن بين الضحية والجلاد فكلهم «جزائريون دمويون».
لا تحرك الهوجة الإعلامية الجزائرية المصرية في زيدان سوى وتر النقمة على أنّها جعلت «الجزائر (...) خصماً لمصر التي لم يعرف الزمان كفواً لها في هذه البلاد الوليدة المجاورة». ما «البلاد المجاورة»؟ لسبب غامض، لا ذكر للسعودية أو ليبيا وغيرها من الدول التي تسوم المهاجرين (المصريين وغير المصريين) سوء العذاب. «البلاد المجاورة» في المقال ــــــ رغم أنف الجغرافيا ــــــ هي الجزائر التي تبعد حدودها عن مصر بما لا يقل عن 2000 كيلومتر.
يحزّ في نفس زيدان أن يذكر اسم مصر مقروناً بدول «وليدة». أليس هذا عين الشوفينية والعنصريّة؟ ألم تبدأ الفاشية في البلدان التي عانتها، بالنقمة على سقوطها في الحضيض، يليها الانتقاص من غيرها من البلدان وتليها أحياناً الرغبة باحتلالها لاستعادة مجد قديم؟ هل سنقرأ في مقال زيداني قادم دعوة إلى إرسال قوات خاصة إلى الجزائر بعدما تعذّر إرسالها إلى السودان «لإجلاء» المشجعين المصريين؟


سجّل أنا عربي!

يقول يوسف زيدان متعالماً كـ«الإعلامي الكبير» عمرو أديب (الصورة): «وأوفد عبد الناصر إلى بلادهم المدرسين المصريين كي يضعوا على ألسنتهم اللفظ العربي». هل حُفظت العربية في الجزائر بفضل عبد الناصر أم بفضل جزائريين تعلّموها وعلّموها في مدارس شبه سرية وسُجنوا بسبب ذلك؟ هل يعرف الكاتب أنّه خلال الفترة الاستعمارية، كان الجزائريون ــ فرانكوفونيين وأمازيغ أيضاً ــ يدافعون عن العربية، لتحدّي الاستعمار؟