جيم جارموش مخرجاً سياسيّاًعدنية شبلي
قد يكون «حدود السيطرة» (2009) الذي عُرض في مهرجانات عدّة آخرها «مهرجان لندن السينمائي» هو أكثر أفلام جيم جارموش تسييساً. في هذا الشريط، يصوّر أحد أهم رموز السينما المستقلة الأميركية رحلة غامضة لرجل غامض (إسحق دي بانكوليه). تنطلق الرحلة من المطار، حيث يظهر الرجل الغامض كانعكاس مشوّه على سقف غرفة المرحاض وهو يمارس الـ«تاي ـــــ شي». وحين يتجه إلى صالة الانتظار، يلتقي برئيسه الذي يعطيه تعليمات بالتوجه إلى إسبانيا، وتحديداً إلى شقة في مبنى الأبراج في مدريد، وانتظار تعليمات جديدة. هكذا تتطور أحداث الفيلم تقريباً من دون تطوّر! يلتقي الرجل الغامض سبع شخصيات غامضة على الأقل. تجري اللقاءات عادةً في المقاهي، حيث يكون الرجل الغامض جالساً إلى طاولة يحتسي القهوة من فنجانين مختلفين في آن. يتقدم منه رجل (أو امرأة) يسأله إن كان يتحدث الإسبانية. وما إن يهزّ الرجل الغامض رأسه نفياً، حتى ينطلق السائل بحديث طويل ذي موضوع محدّد كل مرة، كالموسيقى والأدب والفنانين والسينما أو حتى مواضيع فلسفية وجودية. لا تنتهي الأحاديث إلا لحظة يُخرج الرجل الغامض من جيبه علبة كبريت. عندها، يُخرج المتحدث أيضاً علبة كبريت ويتبادلانهما. كل علبة تحتوي على قصاصة ورق دوّنت عليها بعض الأرقام، يقرأها الرجل الغامض ثم يلتهم الورقة.
«الحياة حفنة تراب» تقول هيام عباس بالعربيّة
تستمر اللقاءات حتى النهاية، حين تتضح مهمة الرجل الغامض وهي اختراق حصن منيع، محاط بالأسوار والحراسة المشددة، واغتيال سياسي يجلس في غرفة يحتاج الوصول إليها إلى فتح سبع بوابات إلكترونية بترقيم سري. ينجح الرجل الغامض في مهمته. يغتال السياسي بوتر قيثارة استخدمه أحد عازفي القيثارة المعروفين في العقد الثاني من القرن العشرين. لكن قبل الاغتيال، ينطلق الرجل الغامض، لأول مرة في الفيلم، في حديث طويل عن السيطرة وحدودها، وأنّه مهما شُدّدت الحراسة وتطوّرت وسائل الأمن، فسيبقى هناك إمكان لاختراق هذه السيطرة.
يُشبه الفيلم شريطاً آخر هو «الرجال الذين يحدقون بالماعز» (غرانت هيسلوف ـــــ ٢٠٠٩)، إذ يتأمل الشروط التي تُدار الحياة وفقها، وخصوصاً في الغرب، وهي المراقبة والسيطرة، كوسيلة للعيش في أمان.
إلا أنّ «حدود السيطرة» لا يفعل ذلك عبر اللجوء إلى إشارات سياسيّة مباشرة، كما في «الرجال الذين يحدقون بالماعز»، بل عبر أدوات الفنّ، كما تشير عملية الاغتيال نفسها، والأحاديث التي تجمعه بالشخصيات التي يلتقيها. ليس ذلك فحسب، بل إنّ شخصيات الفيلم، بمظهرها وأفعالها، مستوحاة من أعمال فنية. مثلاً، أول شخص يلتقي بالرجل الغامض يحمل كماناً يعيدنا إلى لوحات بيكاسو. أما الشخصية الثانية فتستعيد لوحة دايفيد هوكني «بركة مع شخصين» (1971). بل إنّ الرجل الغامض يزور خلال أوقات فراغه متحف الفن الحديث في مدريد، حيث يستعيد الشخصيات التي التقى بها أو المشاهد التي رآها.
باختصار، يتناول «حدود السيطرة» موضوعاً سياسياً واجتماعياً راهناً من دون أن يحيد عن لغته وهي الفن. وهو أمر لم يسبق لأي مخرج أن فعله، ولا حتى جيم جارموش. كما في أعماله السابقة، يتبنّى صاحب «ليلة على الأرض» هنا أيضاً فكرة فلسفية محددة يتأملها طيلة الفيلم. مثلاً، يعتمد شريطه «الكلب الشبح» (1999) فلسفة الزن التي نشأت في جنوب شرق آسيا، بينما يتبنّى «قهوة وسجائر» (2003) الفلسفة ما بعد الحداثية الأوروبية. أما فلسفة «حدود السيطرة»، فتستوحي الفكر الصوفي. في الشريط، تتكرر جملتان ذواتا أبعاد صوفية: «لا مركز للكون ولا حوافَ» و«من يعتقد بأنه أكبر من العالم، فليقطن المقابر، وسيعرف عندها أن الحياة لا تعني أكثر من حفنة تراب». الجملة الأخيرة تتلوها باللغة العربية الممثلة الفلسطينية هيام عباس التي تشارك في الفيلم أيضاً! هاتان الجملتان يؤكّدهما الفيلم من خلال اغتيال سيّد مَن يعتقدون بأنّهم مركز الكون، بل أكبر منه، ومحصّنين من مشاكله.